تعذر انعقاد القمة العربية في موعدها السنوي المقرر أواخر شهر آذار الماضي، في دار الضيافة الملكية المغربية.
ولقد حركت النخوة العربية الأصيلة شهامة موريتانيا، فأعلنت استعدادها لاستضافة القمة اليتيمة، لكن أقطابها لم يتحمسوا للذهاب إلى هذا البلد الفقير والمنسي في غياهب صحرائه البلا حدود.
يبدو أن زمن العروبة، بمعناها التغييري في اتجاه الغد الأفضل، قد مضى وانقضى مُخلياً مساحة الحركة لرافعي شعار الإسلام السياسي وهو يتسع لدول كثيرة في الشرق والغرب، بل ويمكن مطه لاستيعاب العدو الإسرائيلي عملاً بمقولة «إذا جنحوا للسلم...».
وهكذا يبدو أن «مؤتمر التعاون الإسلامي»، الذي يجمع ـ نظرياً ـ الدول الإسلامية، وهي بمعظمها في أحضان الغرب، وبعضها قد «انفتح» على إسرائيل بعد معاهدة «كامب ديفيد»، قد «تقدم» على القمة العربية على طريق «السلام»، خصوصاً أن الأردن وقطر (والمغرب، ولو بشكل غير رسمي) وبعض دول الخليج العربي التي تتحاشى الإعلان رسمياً عن هذا التطور، قد قبلت بوجود «مكاتب» بعناوين مختلفة ولكنها في حقيقتها «إسرائيلية» ويُستقبل المسؤولون عنها ـ رسمياً ـ وإن بغير إعلان.
وقد تلاقى وزراء خارجية الدول المنتمية إلى هذا المؤتمر في موعده في الرياض، ثمّ انعقدت قمته في موعدها المقرر في اسطنبول ـ تركيا، الأسبوع الماضي.
وكان الحشد العربي فيه شهادة وفاة إضافية للقمة العربية.
وقد تحول مؤتمر وزراء الخارجية إلى ميدان حرب ديبلوماسية، بقيادة السعودية ومعها دول الخليج العربي، ضد الجمهورية الإسلامية في إيران. وعبر هذه الحرب تمت صياغة فقرة خاصة لإدانة «حزب الله» بوصفه تنظيماً إرهابياً.
ومن رياض المؤتمر الإسلامي إلى قاهرة الجامعة العربية، تمّ تثبيت فقرة الإدانة لـ «حزب الله» بالإرهاب، مع تحفظ معلن لثلاث دول عربية هي الجزائر والعراق ولبنان، وغمغمة على طريقة «لا، لا.. نعم» صدرت عن دول عربية أخرى، لكن طالبي الإدانة اعتبروا أنهم قد حققوا غرضهم.
المهم أن السعودية نجحت، ومعها الخليجيون وسائر الممالك، في تمرير هذا القرار بكل تبعاته الخطيرة على لبنان، سياسياً. أما معنوياً، فهو قرار يمس الكرامة العربية، حين يدين التنظيم الذي قاتل العدو الإسرائيلي لمدة عشرين عاماً وقدم آلاف الشهداء من أجل تحرير الأرض اللبنانية من احتلاله، ثمّ تمكن في صيف العام 2006 من إلحاق الهزيمة بالحرب التي شنها هذا العدو على لبنان، وكان ذلك نصراً مؤزراً للعرب، كل العرب، بغض النظر عن تأييدهم هذا التنظيم المجاهد أو تحفظهم على توجهاته السياسية، وعلى علاقته بإيران تحديداً.
كذلك جرى في القمة التي عقدها «مؤتمر التعاون الإسلامي» في اسطنبول.
وكان بديهياً أن يتحفظ الوفد اللبناني الذي كان يرأسه تمام سلام، رئيس الحكومة ومعه ثلاثة وزراء، ومعهم من تحفظ في المؤتمر على مستوى وزراء الخارجية.
أما خارج إطار المؤتمر الإسلامي، فقد فاجأت الديبلوماسية السعودية من يتابع بياناتها وتصريحات وزيرها الناجح، باستعادة لغة كانت مهجورة في المملكة. هكذا تصدرت «العروبة» الدعوات الموجهة إلى لبنان خاصة، وكذلك إلى سوريا والعراق، حيث يمكن أن تنتج التباسات كثيرة حول «الإسلام» بمذاهبه العديدة، تحديداً بين «السنة» و «الشيعة»، ويمكن إثارة حساسية العرب غير المسلمين، وبالتحديد المسيحيين العرب في لبنان على وجه الخصوص ثمّ في سوريا والعراق، قبل الوصول إلى مصر وأقباطها الذين يشكلون نسبة وازنة من مواطنيها.
سال حبر سعودي وخليجي غزير في بيانات وخطابات تشير إلى الأمن القومي العربي. لكن هذا الاستخدام الطارئ لكلمة «العروبة» سرعان ما فقد بريقه فسحب من التداول مع «مؤتمر التعاون الإسلامي»، الذي عاد ليؤكد على «الثوابت»، وبالتحديد الحملة على إيران، والتشهير بـ «حزب الله» كتنظيم إرهابي.
المهم أن قمة «مؤتمر التعاون الإسلامي» التي انعقدت في اسطنبول، وتحت القيادة التركية معقودة اللواء لتنظيم «الإخوان المسلمين» بقيادة الرئيس أردوغان، قد شطبت «العمل العربي المشترك» ممثلاً بالقمة العربية، وجارت السعودية في مطالبها سواء في ما يتصل بحصار إيران، أو بإعلان الحرب على اليمن، أو بمكافحة «حزب الله» في لبنان.
ولقد كانت الحكومة المصرية أكثر طرف محرج في هذه القمة. إذ كان عليها أن تتخفف من خصومتها لتركيا ـ اردوغان التي احتضنت «الإخوان المسلمين» الهاربين من مصر، بعد «إسقاط دولتهم» فيها. من هنا فإن وزير خارجية مصر اكتفى بكلمة تنهي رئاسة مصر لهذا المؤتمر، من دون أن يتقدم لمصافحة أردوغان تسليماً للرئاسة إلى تركيا. ولولا ضغط السعودية، لما كان للتمثيل المصري أن يرتفع إلى مستوى وزير الخارجية، وليس خفياً أن أردوغان يتطلع إلى وراثة السلطنة العثمانية عبر الشعار الإسلامي الذي يرفعه تنظيم «الإخوان المسلمين» في تركيا... وإن كان «يناضل» ويفتعل المعارك لكي تُقبل بلاده في الاتحاد الأوروبي أو تمنع من دخوله لأنها دولة إسلامية، ولأنها ليست أوروبية تماماً، وإن كانت بعض أرضها تقع في أوروبا جغرافياً.
على هذا فإن تركيا تعيش تمزقاً سياسياً بين طموحاتها إلى قيادة المسلمين في العالم، بالأكثرية العربية الوازنة، وبين استماتتها في الحصول على هوية أوروبية مستحيلة.. وإن كان الغرب قد رحب بتنسيب تركيا إلى «الحلف الأطلسي» لأسباب عسكرية، أساساً، تتصل بموقعها على حدود «الاتحاد السوفياتي» السابق، الذي يتبدى أن سقوط نظامه الشيوعي لم يبدل جذرياً في سياساته تجاه الغرب عموماً، وتجاه تركيا خصوصاً. وما تباين الموقف من الحرب في سوريا وعليها بين الاتحاد الروسي بقيادة بوتين، وبين تركيا الإسلامية بقيادة أردوغان، والذي جعل كلاهما يقفان على حافة الحرب بعد إسقاط الطيران التركي طائرة روسية كانت في مهمة قتالية على الحدود بين سوريا وتركيا، إلا التعبير الصارخ عن هذا الوضع المتوتر بين الدولتين اللتين يحفل تاريخهما بكثير من الحروب على مناطق النفوذ المتداخلة بينهما.
الخلاصة أن «مؤتمر التعاون الإسلامي» الذي لم يكن له أي تأثير على سياسات الدول المنتمية إليه، اضطراراً في الغالب الأعم، أو من باب المجاملة وسعي دوله الفقيرة إلى الإفادة من دول النفط الغنية فيه، وأبرزها السعودية وسائر دول الخليج العربي، قد فقد عبر السنين عنوانه ودوره.
فهذا المؤتمر قد أنشئ أصلاً بمبادرة من ملك المغرب الراحل الحسن الثاني، في أيلول 1968 بعد شهر من إقدام العدو الإسرائيلي على تدبير حريق في المسجد الأقصى كاد يذهب بهذا المكان المقدس بالنسبة للمسلمين، إذ ورد اسمه في القرآن الكريم قبل وصولهم إلى فلسطين والقدس.
وبرغم الشرعية المفترضة لهذا المؤتمر الذي أنشأه العجز عن الدفاع بالسلاح عن فلسطين جميعاً، كما عن المسجد ذي المنزلة المتميزة لدى العرب أساساً ومعهم سائر المسلمين، فإن العلاقات بين الدول الإسلامية لم تتوطد ولا هي تعززت بعد إقامته.
ولقد سُحِب الحديث عن تحرير فلسطين من التداول وبالتالي من أدبيات هذا المؤتمر، كما سُحِب من أدبيات القمم العربية، ليحل محلها الحديث عن التسوية السياسية للنزاع العربي ـ الإسرائيلي استناداً إلى مشروع الملك السعودي الراحل فهد بن عبد العزيز، معدلاً، وهو الذي طُرح في القمة العربية في بيروت في العام 2002.
وها هي إسرائيل تعلن بعد أيام من اختتام هذا المؤتمر أعماله في اسطنبول، عن رفضها أي حديث عن إعادة الجولان السوري المحتل إلى سوريا، بل وتعقد جلسة لمجلس وزرائها في الجولان لتكرس ادّعاءاتها باقية في الجولان إلى يوم الدين!
وكل مؤتمر إسلامي والأمة العربية بخير.