كشفت الأزمة الحادة التي تتهدد الصحافة اللبنانية في وجودها حقائق سياسية موجعة تتصل بطبيعة الطبقة السياسية (حاكمة ومعارضة..) ومدى إيمانها بالديموقراطية، أي حرية الفكر والقول والعمل السياسي عموماً، الحزبي والنقابي وصولاً إلى الجمعيات الأهلية ومختلف وجوه الحراك الشعبي.
لتوضيح الصورة بكامل أبعادها لا بد من الإشارة إلى أن هذه الأزمة التي كادت تعصف بـ «السفير»، خلال الأسبوع الماضي، إنما تحاصر الزميلتين «النهار» و«اللواء».. وعلى مستوى آخر، فإنها تحاصر أيضاً أبرز محطات التلفزة في لبنان. وليس خارج التوقع أن يستفيق الناس ذات صباح فإذا ليس في وطنهم صحافة مكتوبة أو مرئية.
ومع التقدير للتعاطف الذي شارك فيه اللبنانيون والكثير من الأخوة العرب، فلا بد من التنويه بالاهتمام الجدي الذي أبداه وزير الإعلام النقيب رمزي جريج، وانهماكه في إعداد مقترحات عملية لاستنقاذ الصحافة عبر إجراءات جدية تتخذها الدولة، فإن الناس يكادون ينسون وجود هذه الحكومة التي تعطلها خلافات «مكوناتها» حول كل قرار وأي قرار.
إن الأمل في عشق الطبقة السياسية للديموقراطية والحريات العامة، وحرصها بالتالي على وجود الصحافة واستمرارها كأمل إبليس في الجنة... فهذه الطبقة السياسية لا تريد صحافة خارج مدى سيطرتها، تماما كما لا تريد دولة لشعبها بل تريد الدولة لها، وهذا ما تؤكده على مدار الساعة، سواء برموزها القيادية أو باتباعهم من وزراء ونواب ووجاهات اجتماعية طامحة إلى دخول نادي الحكم والاستمتاع باستثمار النفوذ على شكل صفقات مجزية وتسهيلات تحلل المحرم وتجيز الممنوع من الصفقات والتجاوزات وتحقيق الثروات في زمن قياسي، مطمئنة إلى انعدام المساءلة والمحاسبة.
إن هذه الطبقة السياسية قد وصلت إلى «مواقعها القيادية» بأساليب من «الديموقراطية الطوائفية» وعبر الإفادة من ظروف استثنائية يمكن نسبتها إلى تردي الصراع السياسي وسقوطه، بل إسقاطه في المستنقع الطائفي والمذهبي، فضلاً عن تحول التنافس ومشاريع التكامل بين الدول العربية إلى مشاريع حروب مفتوحة ومدمرة.
وفي نظر النظام، والطبقة السياسية التي استولدها لتتولى حمايته مستفيدة من مغانمه، فلا وجود للشعب، بل هناك مجاميع من رعايا الطوائف، وليس «الرعايا» ولا يجوز أن يكونوا أصحاب مواقف فضلاً عن ان يكونوا أصحاب مطالب وحملة أفكار ومبادئ ورؤى مستقبلية من شأنها ان تحصن الحريات وأن تجمع بين أفرقاء مختلفي المنابت ولكنهم مؤمنون بوطنهم.
وما أزمة الصحافة التي تهدد وجودها إلا الدليل على الافتراق بين «الرعايا» الذين يريدون ويعملون لأن يكونوا مواطنين في «جمهورية» ذات دستور ومؤسسات دستورية (رئاسة، مجلس نيابي، حكومة، ومن ثم قضاء نزيه يحكم بالحق لا بالأمر، ومجلس خدمة مدنية للتوظيف بالكفاءة لا بالشفاعة (أو بالرشوة)، وجيش لحماية الوطن وليس لخدمة السلطان، وأجهزة أمنية لحماية المواطن وحقوقه وليس لحماية المستقوي بتبعيته للمتنفذ أو بالمال الحرام)..
للوهلة الأولى يتبدى وكأن الغلط قد اجتاح البلاد، وأن النظام الفاسد المفسد قد ضرب فأسقط المبادئ والأخلاق والعرف وكل ما يجعل الحياة الطبيعية ممكنة.
فإن أردنا التدقيق اكتشفنا أن الطبقة السياسية قد ضربت فخربت «النظام» الذي استولدها ورعاها ومكن لها السيطرة شبه الكاملة على أسباب الحياة في البلاد:
÷ باتـت رئاسـة الجمهوريـة شـاغـرة، مفتـوحة على الفراغ، مرتهنة للتدخل الخارجي الذي يكاد اللبنانيون يسلمون «بحقه في اختيار رئيسهم»! وهو رمز البلاد، صاحب التوقيع المؤكد للشرعية واحترام الدستور فضلاً عن التزام موجبات التوازن الوطني في قمة السلطة.
÷ وبات المجلس النيابي برئيس ولا نواب، يعيش إجازة مفتوحة ومدفوعة التكاليف، بما فيها الإجازات، ويتسبب في تعطيل غير مبرر للتشريع (إلا استجابة لأمر خارجي بوقف إقراض الدولة أو إجبارها على التعهد بتنفيذ مشروعات حيوية معطلة منذ زمن..) ـ هل من الضروري التذكير بأن هذا المجلس المعطل يكلف الدولة المغيبة، حتى إشعار آخر، أعباء ثقيلة كرواتب وتعويضات سفر ومخصصات تشمل السيارات بلا جمرك وأجور المرافقين وإشغال غير مبرر لبناية ملحقة فخمة المعمار لتكون «مكاتب النواب» الذين لا عمل لهم ولا إنتاج.
- أما الحكومة فكل جلسة لها تبدأ بعركة بين «مكوناتها» المتباعدين، وتنتهي بصفقة أو صفقات فيها لكل مجتهد نصيب (للمثال: الزبالة، وبعض التعيينات).
- وأما الجيش فقيادته وأركانه عناوين لنشرات الأخبار وموضوعات لتصريحات سياسية تمسه في كرامته وجدارته بدوره الوطني الذي لا غنى عنه ولا بديل منه فيه.
- وأما الأوضاع الداخلية في قوى الأمن فتحتل، هذه اللحظة، الصدارة في التحقيقات الصحافية المتلفزة أو المكتوبة ومعها وسائل التواصل الاجتماعي.
لهذا فلا أمل باستمرار الصحافة في لبنان لأجل طويل (بمعزل عن تطور وسائل التواصل الاجتماعي..) فمن يعطل الدولة بمؤسساتها جميعاً، رئاسة ومجلساً نيابياً وحكومة وإدارات رسمية، لن يهتم ـ بالتأكيد ـ لوجود الصحافة حتى باعتبارها شهادة للنظام بأنه «ديموقراطي».
عشتم وعاش لبنان: بلد النور والحرية!