بقلم: غسان شربل
ما أصعب أن تكون صحافياً عربياً. وأن تكون القمم العربية بين اهتماماتك. وأن تطاردها من عاصمة إلى أخرى. وأن تقرأ بين سطور العناقات والكراهيات وتحاول العودة بشيء. وتفيد التجربة أنك تسأل عن معلومات وتحصل غالباً على تمنيات. على رغم معرفة المتحدثين أنك لست وافداً طازجاً في تغطية المواعيد العربية. وأشق من تغطية المجريات الكتابة عن القمة نفسها. عن جديدها وتأثيرها ووقعها في المنطقة والعالم. ويرتكب الصحافي خطأ فادحاً إن طرح أسئلة من قماشة هل وضع العالم العربي اليوم أفضل مما كان عليه قبل سنة؟ وهل وضعه اليوم أفضل مما كان عليه قبل عقد؟ ومن الحكمة تفادي الذكريات فهي مؤلمة وتفادي الأرقام فهي مفجعة.
كنت أستعد لكتابة هذا المقال حين قرأت خبراً وافداً من ليبيا القريبة والمشتعلة. حصل مواطن ليبي على الخيمة الشهيرة للعقيد معمر القذافي ويتلقى العروض لشرائها ويطالب بالمزيد. وتذكرت أنني سمعت من أفراد الحلقة الضيقة حول القذافي، بمن فيهم مدير المراسم الحاضر دائماً نوري المسماري، أخباراً كثيرة ومذهلة حول هذه الخيمة التي كان سيدها يتحكم منها في شؤون البلاد وشجون العباد. كان القذافي يتعمد أن يكون مدخل الخيمة غير مرتفع ليرغم الزائر على قدر من الانحناء لدى دخولها. وفي الرحلات الخارجية كانت الخيمة مشكلة جوالة وقد اضطر فلاديمير بوتين أن يتدخل شخصياً لحل مشكلتها كي يتحاشى غضب العقيد وفشل زيارته. حادثة تنم عن أسلوب التعامل مع العالم. في أحد أروقة الكرملين كان البروتوكول يقضي أن يتقدم كل من معمر القذافي وليونيد بريجنيف إلى منتصف المسافة ليتصافحا. تعمد القذافي أن يتأخر ليظهر أمام الشاشات والليبيين أن الزعيم السوفياتي هو الذي سعى إلى مصافحته. إنها إدارة العلاقات مع العالم انطلاقاً من هاجس الصورة في الداخل. ولم يكن القذافي الوحيد البارع في ارتكاب هذا النوع من الممارسات.
ذكرتني خيمة العقيد بأن القمة العربية غالباً ما تشبه خيمة منصوبة فوق الأوجاع العربية والنزاعات العربية. وأن نقل المريض العربي إلى مستشفى القمة تأخر فعلاً. وأن لجنة الأطباء ليست قادرة على تعويض ما فات من وقت كانت المعالجة فيه ممكنة لو قُدمت الإسعافات الأولية الضرورية في عاصمة المريض.
لا أقول أبداً إن القمة يجب ألا تعقد. لا يجوز أن نتوِّج خساراتنا بخسارة القدرة على الاجتماع تحت سقف واحد على رغم كل ما أصاب جسد التضامن العربي من ثقوب وفجوات واختراقات. القدرة على الاجتماع تُبقي الأمل حياً بتقديم المسكنات على الأقل إن تعذرت العلاجات. لكن الأهم هو ما تفعله الدول العربية في المدة الفاصلة بين قمتين. مشهد القمة هو محصلة المشاهد في العواصم العربية. وواضح أن الدول العربية تتعامل بسرعات مختلفة مع المخاضات العربية والإقليمية والدولية.
لا بد أولاً من التسليم بأن العلاجات القديمة لم تعد صالحة. وأن إدارة البلدان عبر أجهزة الأمن لم تعد ممكنة، وأننا نعيش في عصر آخر، وأنه صارت لكل عربي عبر وسائل التواصل الاجتماعي صحفه ومنابره وإذاعاته، وكلها لا تحتاج إلى ترخيص أو استئذان. لا يمكن معالجة المريض العربي بالعقاقير القديمة. بالتأجيل أو التخويف.
بدا واضحاً في قمة تونس حجم الاستنزاف الذي تعرض له العالم العربي في السنوات الأخيرة بعدما تحولت سنونوات الربيع إلى أحزمة ناسفة. كشفت الانهيارات والتمزقات والولائم الدموية افتقار العالم العربي في كثير من أنحائه إلى المؤسسات التي يمكن أن تضمن وتراقب وتحمي وأن تشكل صمامات أمان. وبناء هذه المؤسسات هو الذي يقي الدولة من البقاء خيمة مهددة باختراق من الخارج أو حرب أهلية من الداخل. هذا هو التحدي الأول المطروح على كل بلد عربي. بناء دولة عصرية ومؤسسات حقيقية قادرة على إشراك الناس في خطط التنمية لتوفير فرص العمل وتحديث التعليم وترسيخ السلم الأهلي والارتباط بالعصر السريع المتحول. ويوم تقطع الدول العربية شوطاً معقولاً على هذا الطريق ستكون القمة مختلفة وثقلها الإقليمي والدولي مختلفاً.
والتحدي الثاني هو التحدي الإقليمي. يكفي الالتفات إلى الخرائط. القوى الإقليمية تبحث عن أمنها وأدوارها وتمارس حروبها على الأرض العربية وحدها. في الجزء العربي وحده سقطت حصانة الحدود الدولية على يد «داعش» وشهدنا أشكالاً وألواناً من الميليشيات الجوالة والجيوش الصغيرة المتحركة بإرادات غير عربية. النموذج السوري صارخ في هذا المجال. إيران ترسخ بنيتها العسكرية على التراب السوري. وإسرائيل تستهدف هذه البنية على الأرض السورية. وتركيا تطارد الأكراد داخل الأراضي السورية. لم يستطع العالم العربي أن يكون لاعباً أسوة بالآخرين وتحول جزء منه ملعباً لهم. واستمرار هذا الواقع ينذر بتغيير معادلات وهويات.
التحدي الثالث هو الوضع الدولي الغامض والصعب والذي يبدو في مرحلة ضبابية وانتقالية دفعت سياسيين ومحللين إلى القول إن النظام الدولي الذي وُلد من رحم الحرب العالمية الثانية آخذ في التفكك، وإن ما نشهده هو صعوبات ولادة بديل لا بدَّ من أن يتأخر في التبلور.
على وقع هذه المخاضات العربية والإقليمية والدولية انعقدت قمة تونس. كان مفيداً إيلاء الجرح الليبي المفتوح اهتماماً واضحاً. وكذلك التأكيد على شروط أي سلام يستحق صفة السلام العادل والدائم ورفض الخطوات الأميركية المتعلقة بالقدس والجولان. والأمر نفسه بالنسبة إلى رفض دور إيران في زعزعة الاستقرار خصوصاً عبر صواريخها الموضوعة في تصرف الميليشيات الحوثية. ورفض دور تركيا التي تنتشر في سوريا بجواز مرور روسي لا سوري.
لا غرابة أن يتألم العرب من تراجع ثقلهم الدولي. أوروبا نفسها تشكو من تراجع ثقلها وتخاف من تهميشها. تغيرت اللعبة ومعايير القوة. انعقدت قمة تونس وانتهت. المشكلة ليست في القمة. إنها أولاً وأخيراً في عواصم الأزمات وأي علاج جدي يبدأ من هناك.
ما أصعب أن تكون صحافياً عربياً. وأن تكون القمم العربية بين اهتماماتك. وما أصعب أن تكتب عن القمة الجديدة مقالاً لا يشبه ما كتبت عن القمم التي لاحقتها على مدار عقدين.
فهل من مستمع ومستجيب؟!!