بقلم - غسان شربل
«دولة البغدادي» موعودة بسقوط وشيك. ولم يكن مقدراً لها أن تدوم. غداة إطلالتها المدوية توقع الخبراء أن يبادر العالم إلى اقتلاعها. ليس فقط لأنه لا يستطيع التعايش معها، بل أيضاً لأن الإرهاب يرتكب خطأ قاتلاً حين يجلس تحت عنوان معروف. قوة الإرهاب تكمن أولاً في غياب العنوان ما يصعب استهدافه أو القبض عليه.
ضرب «داعش» المنطقة كزلزال وافد من أعماق الماضي. وبدا واضحاً أنه يسير في الاتجاه المعاكس للتاريخ والعصر. أفاد الجيش الأسود الغامض من تراث «القاعدة». وإسقاط نظام صدام حسين. وسياسات الثأر التي استحكمت في بغداد. ومن التصدع الدموي للدولة السورية. ومن المعبر التركي المفتوح الذي أتاح لـ«الدواعش» وأشباههم التسلل إلى الحلبة السورية.
كانت سنوات «دولة البغدادي» عنيفة ومخيفة وحافلة بمشاهد لم يعاين العالم مثيلاً لها في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. مسلحون وافدون من كهوف التاريخ يستخدمون آخر إنجازات التكنولوجيا لإرعاب العالم بمشاهد النحر والرؤوس المقطوعة وإحراق الأسرى والتصفيات أمام الكاميرات. كانت أطول عملية تخريب وترهيب شهدتها المنطقة التي لم يبخل عليها سوء الحظ بالقساة وممارساتهم.
كانت سنوات «دولة البغدادي» باهظة في العلاقات بين المكونات. ليس فقط لأنها مشروع شطب وطلاق، بل أيضاً لأنها صيغة لتوزيع الدمار على المدن والدول والشراكات الوطنية وجسور التعايش. وشهدت شطباً للحدود الدولية بين العراق وسوريا، وهو ما لا يستطيع العالم القبول به، ونذكر كيف ردَّ على محاولة صدام شطب الحدود الدولية بين العراق والكويت.
لم تكتب قصة «داعش» بعد. إنها معقدة وتشمل أدوار من حاربها ومن اخترقها وحاول توظيف وحشيتها في خدمة برنامجه، ومن تذرع بوجودها لتبرير سياسات من قماشة تلك التي تسببت في ولادة «داعش». وثمة من يعتقد وبينهم القيادي الكردي السوري صالح مسلم أن «داعش» تحول إلى سوبرماركت دخلته أجهزة الاستخبارات مركزاً اتهاماته على الاستخبارات التركية.
أمضينا سنوات مع «دولة البغدادي» والحرب عليها. فرضت نفسها على الصفحات الأولى وأثارت فضول الصحافيين، وكنت واحداً منهم.
في العاشر من يونيو (حزيران) 2014، كنت على موعد في باريس مع رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني. قبل مغادرة الفندق استوقفني خبر عاجل على قناة «العربية» يعلن سقوط مدينة الموصل بيد «داعش». وجدت بارزاني قلقاً رغم طبعه الهادئ. كان يتلقى التقارير ويتساءل عن السبب الذي جعل آلاف الجنود العراقيين يفرون من المدينة ومحيطها تاركين ترسانة أسلحتهم الأميركية في قبضة أفراد التنظيم. أكد أن إقليم كردستان «لا يستطيع التعايش مع هؤلاء الوحوش على حدوده». وروى أنه لفت رئيس الوزراء نوري المالكي إلى نشاطات مشبوهة للإرهابيين في محط الموصل، وأن الأخير رد مؤكداً أن الوضع تحت السيطرة، ملمحاً إلى أن على بارزاني أن يكتفي بحمل هموم الإقليم وحده. وقبل المغادرة، قال بارزاني: «هذا هو الشرق الأوسط للأسف. لا نكاد نخرج من حرب حتى ندخل في أخرى». ورأيته لاحقاً يجول على خطوط التماس مع «داعش» خصوصاً أن بدايات المواجهات كانت مكلفة بسبب التفوق العسكري للتنظيم بفعل الترسانة التي غنمها في الموصل.
الفضول مرض ملازم للمهنة يتقاعد الصحافي فور انحساره. شاءت المهنة أن ألتقيَ بمتهمين بالإرهاب وأحاورهم، لكنني كنت متشوقاً لمحاورة «داعشي»، خصوصاً من هؤلاء الذين قدموا من أماكن بعيدة للانضواء تحت رايات ما زعم أنه «دولة الخلافة». في الأسبوع الأخير من أغسطس (آب) 2017 تمنيت على الرئيس بارزاني التدخل لأتمكن من لقاء بعض «الدواعش» المعتقلين في مقر مكافحة الإرهاب في أربيل، فتجاوب مشكوراً.
أعطاني مسؤول المقر مكتباً وتم إحضار المعتقلين تباعاً مع مترجم حين تستدعي الضرورة. روى لي الصيني س. ق. ك. أنه جاء مع عائلته من تركستان الشرقية إلى تركيا ونفدت مدخراته فيها، لكن شبكة تعمل هناك دفعت تكاليف انتقاله إلى الرقة ومنها إلى تلعفر، حيث ألحقوه بـ«معسكر أبو هاجر التركستاني» وأخضعوه لـ«دورة شرعية» تضمنت تدريباً على السلاح. وبرر التحاقه بـ«داعش» بما صور له أنه سيعثر على «دولة» تشبهه ويتيسر له فيها العيش بحرية وفق معتقداته، وهو ما قال إنه غير متاح في الصين. واعترف في النهاية أنه «خدع» وأنه لم يعثر على ما ادعوا وجوده.
قوبلان أوزاق حسن جاء من كازاخستان أرسلوه إلى تلعفر، حيث التقى متحدثين بالروسية جاءوا من أوزبكستان وطاجيكستان وداغستان وتركمانستان والشيشان. اعترف أنه شارك في عمليات عسكرية، لكنه نفى القيام بعمليات قتل فردية. وأعرب عن خيبته لأنه لم يعثر في «دولة البغدادي» على الصورة التي نقلت إليه.
الأميركي ر. ك. درس العلوم الدينية في ترينيداد. قال إنه شاهد على «يوتيوب» شريطاً لامرأة سورية تنزف وسط الركام وتنادي المسلمين النجدة. قرر المجيء واصطحب زوجته الطبيبة إلى تركيا. وهناك كانت الشبكة في انتظارهما وتولت نقلهما إلى مناطق «داعش» حيث أخضع لـ«دورة شرعية».
والتقيت أيضاً عراقياً من تلعفر وسكان بغداد. قال إنه التحق بـ«داعش» بسبب «السياسات الطائفية التي استهدفت السنة في العراق في عهد المالكي». والتقيت سورياً من عامودا قرب القامشلي. قال إنه التحق بـ«الجيش الحر» وحين طرد الأخير التحق بـ«داعش» لمواصلة القتال ضد النظام.
لم يجتذب «داعش» فقط المقاتلين الجوالين الباحثين عن مسرح للاشتباك. اجتذب أيضاً بسطاء انطلت عليهم الصور والأشرطة والدعاية المسمومة التي استدرجتهم إلى ما قدمته في صورة «أرض الخلاص والأحلام». لهذا لا بد من العودة إلى دراسة ظاهرة «داعش» مع الإعلان عن نجاح التحالف الدولي في الانتصار عليه واجتثاث دولته. لا بد من التفكير في التصدعات التي سهلت ولادته وعمليات الاستقطاب وتوفير المعبر الآمن للراغبين في الالتحاق به.
سقوط «دولة البغدادي» لا يعني نهاية «داعش». فالتنظيم قد يتشظى في صورة «ذئاب منفردة» شديدة الخطورة بانتظار العثور على ملاذ جديد. وقد يؤدي تشظيه إلى تقدم «القاعدة» لوراثة بعض عناصره. انتهت صفحة المواجهات العسكرية بالطائرات وبدأت صفحة من الحرب الأمنية والاستخباراتية المفتوحة. نقلا عن الشرق الاوسط اللندنيهالمقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع