يصدر في السابع من الشهر الجاري (غداً) الحكم في قضية اغتيال رفيق الحريري ورفاقه. بعد مضي خمسة عشر عاماً ونصف العام، ستحدّد المحكمة الدولية التي أنشئت بموجب قرار صادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مَن قتل الرجل. ليس معروفاً هل ستذكر كلّ الأسماء أم تكتفي ببعض هؤلاء من دون تحديد الجهة التي ينتمون إليها إرضاء لروسيا.
اشترطت روسيا، من أجل تمرير قرار مجلس الأمن القاضي بإنشاء «المحكمة الخاصة بلبنان» تحت الفصل السابع، عدم ذكر كيانات سياسية، مثل «حزب الله» أو الدولة السورية في الحكم الصادر عن المحكمة الدولية. لن تكون حاجة إلى ذكر أي كيانات سياسية من أجل معرفة من كان وراء اغتيال رفيق الحريري. من أجل معرفة من نفّذ ومن وحرّض ومن وفّر التغطية عبر النظام الأمني المشترك الذي كان يتحكّم بالوضع على الأرض في المرحلة التي سبقت اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق ومن كانوا معه.
سيكون سعد الحريري في لاهاي من أجل الاستماع إلى الحكم الذي ستصدره المحكمة الدولية. لن يتردّد في قول ما يجب قوله عن الجهة التي نفذت الاغتيال والتي ترفض تسليم المجرمين، لكنّه سيكون حريصاً على تفادي كلّ ما يمكن أن يثير فتنة شيعية – سنّية. يظلّ تفادي فتنة أخرى في هذا الظرف الذي يمرّ فيه لبنان أولويّة وطنيّة، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار أنّ «حزب الله» ليس ممثّل الشيعة في لبنان، بل أخذ الطائفة رهينة تمهيداً كي يصبح لبنان كلّه رهينة لديه بعد دخول البلد رسميّاً «عهد حزب الله» ابتداء من الواحد والثلاثين من تشرين الأوّل – 2016.
منذ اغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط 2005، وحتّى قبل ذلك عند محاولة اغتيال مروان حمادة في أوّل تشرين الأوّل 2004، وصولاً إلى صدور حكم المحكمة الدولية في لاهاي، صار هناك واقع لم يعد في الإمكان تجاهله. لا يتمثّل هذا الواقع في التخلّص جسدياً من رفيق الحريري فحسب، بل يشمل أيضاً القضاء نهائياً على كلّ أمل في أن تقوم قيامة للبنان. الدليل على ذلك أن لبنان يشهد حالياً عملية قضاء نهائية على كل إرث رفيق الحريري، بدءاً بالكهرباء والمستشفى والنظام المصرفي والاقتصاد عموماً، وصولاً إلى التعليم والبنية التحتية.
يظلّ التعليم أحد أهمّ ما تركه رفيق الحريري للبنان، وذلك من دون تجاهل إعادة إعمار وسط بيروت بكلّ ما يرمز إليه من انتصار لثقافة الحياة على ثقافة الموت التي ما زال ينادي بها «حزب الله» والذين يقفون خلفه. ما تتعرّض له الجامعة الأميركية في بيروت حالياً جزء لا يتجزّأ من عملية تصبّ في القضاء نهائياً على لبنان. لبنان الذي سعى رفيق الحريري، الذي علّم الآلاف من اللبنانيين على حسابه، إلى استعادته كي يكون مكاناً لا يحلو فيه العيش للبنانيين فحسب، بل لكلّ عربي في المنطقة أيضاً.
إذا عددنا ما يتعرّض له التلميذ والطالب الجامعي من ظلم في أيّامنا هذه، نكتشف أكثر لماذا كان مطلوباً اغتيال رفيق الحريري الذي عمل في ثمانينيات القرن الماضي وبداية تسعيناته كلّ ما يستطيع من أجل إبقاء مستشفى الجامعة الأميركية مفتوحاً ومن أجل إبقاء أكبر عدد ممكن من الأطباء والأساتذة في لبنان.
صارت كلّ الجامعات الكبيرة مهدّدة، كذلك المدارس المهمّة في وقت أفلست الدولة اللبنانية وأفلست معها المصارف التي باتت تحتجز أموال المودعين. يحدث ذلك في ظلّ «حكومة حزب الله» التي لا تقول للناس لماذا لم يعد من حقّهم التصرّف بمدخراتهم، بما في ذلك إرسال المال اللازم لأبنائهم الموجودين في مؤسسات تعليمية خارج لبنان.
احتاج الذين قتلوا رفيق الحريري وقتلوا بعد ذلك مجموعة من خيرة اللبنانيين إلى أكثر من خمس عشرة سنة للقضاء على إرث الرجل. لم يدركوا أن القضاء على إرث رفيق الحريري هو قضاء على لبنان ليس إلّا. فما يتبيّن مع مرور الزمن أنّه لا وجود لمشروع بديل من ذلك الذي عمل من أجله رفيق الحريري. بنى الحجر والبشر. البشر قبل الحجر. ما يحصل حالياً هو بناء مشروع بديل من مشروع الإنماء والإعمار.
إنّه مشروع مبني على الحقد وليس على أي شيء آخر. ليس لدى الذين قتلوا رفيق الحريري والذين غطوا الجريمة وصولاً إلى ما وصل إليه لبنان سوى مشروع واحد اسمه الحقد. كانت زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان مناسبة كي يتكشف مدى الحقد على لبنان واللبنانيين ومدى فهم فرنسا لما على المحكّ في لبنان. لم يكتف لودريان بالتشديد على الإصلاحات المطلوبة، وهو أمر لم يفهم كبار المسؤولين معناه ومدى أهمّيته، بل حمل معه مساعدة لمؤسسات تعليمية لبنانية كي تتمكن من تفادي الإقفال وإكمال مهمّتها.
كان وزير الخارجية ناصيف حتّي الوحيد بين كبار المسؤولين اللبنانيين الذي فهم مغزى زيارة وزير الخارجية الفرنسي وأبعاد الرسالة التي حملها. هذا ما دفعه إلى الاستقالة. يعرف حتّي مثله مثل أي لبناني يمتلك حدّاً أدنى من المنطق أن المركب اللبناني يغرق. قرّر الوزير القفز منه قبل فوات الأوان، أقلّه من أجل إنقاذ سمعته في بلد يعرف الصغير قبل الكبير أنّ ما يجري حالياً هو استكمال لجريمة اغتيال رفيق الحريري.
نعم، احتاج القضاء على إرث رفيق الحريري ما يزيد على خمسة عشر عاماً. تكمن مأساة لبنان في أنه لا وجود لإرث آخر يمكن البناء عليه. في نهاية المطاف، إن رفيق الحريري هو الشخص الوحيد الذي نجح في إعادة لبنانيين إلى لبنان منذ بدأ النزف في العام 1975. أوقف حفلة الجنون في البلد وأعاد إليه مسيحيين قبل أن يعيد مسلمين. الأكيد أن الحكم الذي سيصدر عن المحكمة الدولية هو للتاريخ. لن يعيد الحكم رفيق الحريري إلى اللبنانيين ولبنان.
لن يعيد لهم حتّى الأمل بعدما انصرفت آلة القتل التي فجرت موكبه إلى العمل بكلّ قوّة من أجل محو أي أثر لرجل كان مهووساً بلبنان وبقدرات اللبنانيين على الدفاع عن ثقافة الحياة.
حسناً، قتل الحاقدون على لبنان رفيق الحريري وقتلوا لبنان في الوقت ذاته. سيلعنهم أبناؤهم في يوم من الأيّام قبل أن يلعنهم اللبنانيون الآخرون الذين غرقوا في البؤس إلى ما فوق آذانهم.