بقلم: د. فايز أبو شمالة
كل شيء تغير في غزة إلا الكرامة، وينقص غزة كل شيء إلا الرجال؛ أينما يممت وجهك تطالعك ألاف الوجوه لأشبال وشباب لا تعرف كيف انشقت عنهم الأرض، وفي عيونهم تمرد، وغضب، وكراهية، ورغبة في الانفجار في وجه الحصار.
الغريب في هذا المشهد الغريب من غزة، أن أهل غزة لم يثوروا على حماس، ولم يتنكروا لها تماماً مثلما لم يتنكر السجناء الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية للثورة الفلسطينية، رغم ما لحق بهم، وأصابهم من وجع السجان، وصدأ القضبان، كذلك لم يخرج أهل غزة بمظاهرات تطالب برحيل حماس عن الحكم بصفتها المسئول المباشر عما آلت إليه الأمور في غزة، كما تصور ذلك بعض وسائل الإعلام، وكما يتمنى المختبئون في العتمة، ويتساءلون: أين الشمس؟.
قبل نجاح حماس في انتخابات التشريعية يناير 2006 كانت الخيرات، والمدخرات لدى مواطني غزة وفيرة، وشهدت غزة حالة من العمران والتطور لم تحلم فيها، وكان ما يفيض على أهل غزة من أموال، ومشاريع، ومنشئات، ومنافع، كان يطغى على ما تعرفه من مفاسد البعض، فصمتت غزة راضية حانقة، على أمل التغيير، والإصلاح الذي وعدت فيه "حماس"، فلما جاء وعد "حماس"، فإذا غزة بلا منافع، وأيضاً بلا مفاسد، فليس في غزة من شيء يُفسِد، أو يُفسَد أو يلهث إليه الفاسدون، فغزة يلفها الحصار والمواجهة والدم والنار، فلماذا تصمت، لماذا لا تثور غزة على الواقع الذي تغير معيشياً للأسوأ؟.
ما ليس غريباً عن أهل قطاع غزة أنهم يعرفون محاصرهم الحقيقي، ويسمونه بالاسم، ويعرفون أن للحصار أهدافاً سياسية، وأن المقصود بحصارهم هو انتزاع المواقف، والتسليم بالثوابت، ويعرف أهل غزة أن القدس، ومقدسات المسلمين الدينية هي المستهدفة، وأن التسليم بضياع يافا، وحيفا، وصفد، واسدود، وبيت دراس، وحمامة، والسوافير، والجورة، وبئر السبع، وكل المدن، والقرى الفلسطينية المغتصبة سنة 1948 هو الأصل في الصراع، وأن تصفية قضية اللاجئين على جدول أعمال المفاوضات، لذا لا تسمع في غزة من يتحدث عن ثورة، وعن انتفاضة، وعن غضب داخلي باستثناء البعض ذوي الأهداف الآنية الضيقة، المنشغلون بأنفسهم فقط، وهذا لا يعني أنك لا تجد في غزة من يشتكي الحال المعيشي، وما أكثر المشتكين! وتسمع في غزة من يعترض على ممارسة بعض عناصر حماس، وأخطائهم، وما أكثر المعترضين! وتتلمس الانتقاد لتصريحات بعض مسئولي حماس، وما أكثر المنتقدين لحماس، فهم بشرٌ، وليسوا ملائكة! ولكن لا تجد فلسطينياً عاقلاً موزوناً في قطاع غزة يقول: أن حماس هي السبب المباشر في الحصار، بل على العكس، تلحظ في الأوساط الواعية والمثقفة من الشباب مزيداً من التشبث بالحق التاريخي، والديني في فلسطين، وتتلمس في أوساط الشباب الاستعداد للتضحية، والصبر، وتحميل المسئولية الكاملة لمن التقت مصالحهم الشخصية مع مصالح الدولة العبرية، وتقاسموا معها الضغط على أهل غزة سراً، وعلانية.
وفي كل صباح يحتار أعداء غزة، رغم اختلاف مشاربهم، يفتشون في جدائل شعرها عن ذرة غبار، ويتساءلون: ما سر صمود غزة، متى ستسقط؟ متى ستنهار؟
لم يكلف أعداء غزة أنفسهم عناء قراءة الواقع السياسي الفلسطيني من جديد، لم يدركوا المتغيرات الجوهرية في حياة الناس، ولاسيما بعد أن تذوقت غزة حلاوة طرد الجيش الإسرائيلي بالقوة عن بعض أراضيها، وهذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي تحبط فيها غزة أعداءها، وتفشل مخططهم، فقد جاء في كتاب اليهود "التناخ"ـ:
أن شمشون اليهودي الجبار، قبل ثلاثة ألاف سنة، كان يهاجم غزة، يقتل أبناءها، ويغتصب نساءها، مستخفاً بكل أهل غزة، الذين احتاروا بمصدر قوة "شمشون" إلى أن تحايلوا في اصطياده بخديعة "دليلة" الفلسطينية، وباقي القصة معروف.
الملفت في القصة التاريخية، أن أول عقاب أنزله أهل غزة بشمشون الجبار، إطفاء نور عينيه، وفي ذلك دلالة على أن مصدر القوة الحقيقي لشمشون اليهودي الجبار هو: العين بالمعنى الحقيقي للكلمة، والمعنى المجازي.
لقد أطفأت غزة نور عين عدوها قبل أن تخلع ملابسها، لتستحم عارية من المصالح، لا يسترها في بحر الحصار إلا ثياب الثوابت الفلسطينية، تذرف دمعتها على وسادة الزمن، وتتنهد بصمت، وتهمس: تموتُ الحُرةُ ولا تأكلُ من ثديها.
نشرت هذا المقال في شهر اكتوبر 2008، قبل ثلاثة حروب على غزة.
ثماني سنوات تغيرت الدنيا، ولم تتغير غزة، بل ازدادت قوة وصلابة وثبات.