د.فايز ابو شمالة
كنت مقيد اليدين والرجلين، ومحاطاً بسجانين إسرائيليين، وأنا أقطع بصعوبة عشرة أمتار، وهي المسافة الفاصلة بين بوابة سجن الرملة العسكري وسيارة الشرطة التي ستنقلني إلى مستشفى "أساف هروفيه" المدني؛ لإجراء عملية جراحية.
كنت مهموماً أتوكأ على وجعي؛ حين ظهرت فجأة الممرضة اليهودية "إيله" برفقة زوجة مدير مستشفى السجن، لقد بدا الاندهاش على وجه "إيله" من قسوة المشهد، فصرخت على السجانين: أنتما أغبياء! ما هذا التصرف الأحمق؟ لماذا لا تساعدان السجين؟
وبسرعة البرق امتدت يد الممرضة اليهودية "إيله" نحو حقيبة السجن التي كنت أحملها، والتي تحتوي على ملابسي الخاصة وبعض الكتب، وقليلاً من الشاي والسكر، وقالت بالعبرية: تفي إت هتيك أبو شمالة، هات الحقيبة يا أبا شمالة.
لقد أسندت الممرضتان اليهوديتان جسدي الثقيل، وساعدتاني حتى وصلت إلى السيارة.
تصرف الممرضتان الإنساني أشعرني بإنسانيتي، وجعلني أدرك وحشية السجانين، وهما يقولان لي بعد ذلك: وصلنا إلى مستشفى "أساف هاروفيه"، هيا أنزل من السيارة.
نزلت من السيارة دون أي مساعدة منهما، ومشيت باتجاه المدخل دون أي مساعدة منهما، ثم صعدت الدرج بصعوبة بالغة، ومشيت بتثاقل حتى صالة الاستقبال في المستشفى، وهم من حولي مثل الأمراء، حتى حين طلب مني أحدهم أن أنتظر حتى يتمم الآخر إجراءات دخولي المستشفى، فانتظرت واقفاً، وأنا ألتقط أنفاسي من شدة التعب والمرض والإرهاق.
بعد دقائق، رجع السجان وهو يقول: الدخول ليس من هذا المكان، هيا، عليك أن تمشي حتى البوابة الأخرى، وأشار بيده إلى مكان بعيد.
نظرت إلى السجانين الاثنين بترقق، وقلت في ضعف شديد: لا استيطع، لا قدرة لي على المشي، أين هي سيارة السجن؟!!
رد أحدهم بسرعة: لقد انتهت مهمة السيارة، لقد ذهبت، وعليك أن تمشي إلى هناك، وإلا سأضطر أن أعيدك إلى مستشفى السجن دون أن تجرى لك عملية جراحية.
قلت في نفسي: هذا السجان يستخف بي، ويهددني عن جهل، إذ كيف يعيدني إلى مستشفى السجن، وهو الذي يقول: لقد انتهت مهمة السيارة؟
ومع ازدياد الوجع، ازداد غضبي من السجانين، وقررت أن أجلس على الأرض في صالة الاستقبال في مستشفى "أساف هروفيه".
صرخ أحد السجناء، وحاول أن يدفعني بقدمه كي أنهض، ولكنني صرخت عليه، ورحت ألعن الجدود الأولى للحركة الصهيونية، بل أنني بالغت في التحدي، فتمددت بجسدي الطويل والثقيل على طول الممر في صالة الاستقبال.
بعد أن عجز السجانان في إخافتي، وعجزا عن فعل شيء، انتقلا من التهديد إلى التوسل، وصارا يرجوان أن أجلس فقط، وأن أفتح الطريق، ولكنني واصلت التحدي، ورفضت أن أتحرك من مكاني، وصرخت بأعلى صوتي: استدع السيارة فوراً، فأنا لا أقوى على المشي.
طال زمن تمددي في مدخل المستشفى، وطال زمن توسل السجان، بل أبدا أحدهم استعداداً لحمل الحقيبة، وقال الآخر: قم، وتوكأ على كتفي حتى نصل إلى البوابة الثانية، ولكنني رفضت، وواصلت الصراخ، وإطلاق الشتائم التي كسرت هدوء المستشفى.
في تلك اللحظات من الغربة شعرت أنني القوى، وأنهم الضعفاء، لقد شعرت أنني صاحب القرار، وأنهم أعجز عن فعل شيء.
ورغم أن عادات اليهود تقضي بالنأي بأنفسهم عما لا يخصهم، إلا أن أحد المارة اليهود قال دون أن يبطئ من خطوته: هاتوا له عجلة.
لقد التقط السجان الفكرة فوراً، وأحضر أحدهم العجلة، وأمسك بها، في الوقت الذي مد الآخر لي يده معيناً على النهوض، والجلوس على العجلة.
رفع أحد السجانين حقيبة السجن، ووضعها على ركبتي، بينما راح الآخر يدفع بالعجلة إلى الأمام، وهو يقول: الآن أنت مثل الملك!!
قلت له وأنا أكتم ابتسامة: نعم، الآن أنا الملك.