د. يوسف رزقة
توقفنا في مقال سابق عند واحدة فقط من علامات النصر العديدة، وكانت عبارة عن سقوط هيبة جيش الاحتلال في نفوس المقاومين، وعلى مدى أوسع في نفوس العرب والمسلمين، بعد أن تلاعبت المقاومة بقوات النخبة، ومرغت أنفها في التراب. ونود في هذا المقال أن نتوقف عند علامة أخرى لا تخطئها العين البصيرة، وأعني بها ما قاله خالد مشعل بتواضع عن ( معادل الرعب، والألم، وفقدان الأمن) باعتبارها من مخرجات المعركة الرئيسة.
في معادلة( الرعب، لا الردع)، حققت المقاومة نسبة عالية منها، فقد انتشر الخوف من الموت، أو الإصابة بجراح مقعدة، ملايين من الإسرائيليين في كافة مدن وقرى فلسطين المحتلة، وبالذات في مستوطنات غلاف غزة، حيث ترك كل هؤلاء مساكنهم ومصالحهم ، ونزحوا الى الوسط أو الشمال، وعبّروا عن رعبهم وغضبهم بعدة طرق، منها: ( النزوح، وطلب مساعدة الجيش والدولة في إخلائهم)، ومنها: ( التظاهر والاعتصام قبالة بيت رئيس الوزراء، واتهامه بالفشل)، ومنها:( الطلب من قادة الكبينيت الإقامة في الجنوب، وعقد جلسات المجلس في إحدى المستوطنات الجنوبية)، ومنها:( وقف الدراسة في مدارس غلاف غزة بأمر من رؤساء البلديات لأنهم لا يستطيعون توفير الأمن للتلاميذ)، ومنها أخيرا، وليس آخراً:( رفض سكان مستوطنة نحال عوز العودة الى مسكنهم بعد اتفاق التهدئة، لأنهم لا يشعرون باطمئنان كاف، بسبب حالة الرعب النفسي المكبوت فيهم).
لقد بث القسام فلما مصورا لاقتحام عناصره لأحد المواقع الحصينة لحراسات مستوطنة نحال عوز، وقتل جلّ من فيه، وعادوا سالمين الى مواقعهم، وقد أحدث الفلم المصور رعبا في كل من يسكنون المستوطنات الجنوبية، وتجاوزها الى من في المدن الكبرى، حتى أمر الجيش بعدم بث الفلم، وطلب من (جوجل ) حذفه. وهنا اذكر ما ترجمة ناصر اللحام من أن رجل في المستوطنة قال للأمن إني اسمع في الليل أصوات حفر ونقر تحت البيت، واستمع سكان المستوطنة لقوله فنزحوا كلهم عنها فورا، ولم يقبلوا بتطمينات الأمن.
قال صلى الله عليه وسلم: ( نصرت بالرعب مسيرة شهر) ، أي قبل التحام المقاتلين، وهذا حدث بعضه أو كله بفضل الله في معركة العصف المأكول، وهو ولا شك علامة من علامات النصر الواقعية حتى حين نجرد ما يقال من سرد في هذه المسألة من الخيال، ومن المبالغة. لذا قال خالد ( الرعب، ولم يقل الردع) تحقيقا للصدق والواقعية، وقال الردع قادم، لأن ما تحقق منه في هذه المعركة كان قليلا.
وفي معادلة ( فقدان الأمن) ، فكما فقد الفلسطيني جزءا من إحساسه بالأمن بمفهومه الشخصي والعام، فقد المجتمع الصهيوني جزءا أكبر من إحساسه بالأمن على المستوى الشخصي، والعام ، وزيادة على ذلك فقد إحساسه بالأمن الوجودي، الذي يتعلق بمستقبله، ومستقبل الدولة بعد بضعة سنين، والحديث في هذا الباب يطول، وهو ليس لنا غرض في هذا المقال. وفي المقابل ازداد إيمان الفلسطيني بمستقبله الوجودي باعتباره صاحب هذه الأرض، بعد أن تيقن أن اسرائيل دولة تجري عليها الهزيمة والفناء كما جرت على غيرها من الدول في التاريخ.
وفي معادلة (الألم المتبادل) تتحدث الصورة، أكثر مما يتحدث الفكر، فقد رأيناهم في جنائزهم وهم يبكون، ويسخرون، وينهارون، كما رأيناهم يشكون من حياة أصبحت لا تطاق بمعاييرهم الدنيوية، ورأينا الذعر الذي أصابهم مع كل صفارة إنذار، وحالة هروب الى الملاجئ ، وكأن الموت يجري معهم أو بينهم. كان ألمهم مع جزع، ونفاد صبر، وقلة يقين، وخيبة رجاء، وكان ألما شاملا استغرق السياسة، والاقتصاد والأمن الاجتماعي، وكان ألم غزة مع صبر، ورجاء، ويقين بالله ونصره. كان ألم غزة من المتآمرين عليها، يفوق ما أصابه من ألم على يد المحتل وألته العسكرية.!!!
هذه المعادلات الثلاثة هي من المقدمات الطبيعية للردع القادم، وهي علامة من علامات انتصار غزة، حيث لم تتشكل هذه العلامة بهذا الوضوح منذ احتلال يهود لفلسطين وحتى الآن كما تشكلت على وجه واضح في معركة العصف المأكول. والحمد لله رب العالمين.