د. يوسف رزقة
إن حديث ( نعمان )نائب رئيس الوزراء التركي عن سايكس بيكو جديد في المنطقة العربية ليس ضربا من التنبؤ أبدا، بل هو نتيجة حتمية لاستقراء واقع ميداني بدأ يتشكل بقرار خارجي، وينفذ بأيدي عربية، بلا وعي، ولا قراءة صحيحة للتاريخ، وبالذات سايكس بيكو الأولى التي كانت بعد حرب وصراعات داخلية.
لسنا في حاجة إلى جهاز استخبارات يسترق لنا السمع، أو يسرق وثائق الغرف المغلقة، لسنا في حاجة لهذا لأنه ببساطة لن يزيدنا معرفة أو يقينا بما تخططه إسرائيل ودوائر استعمارية للمنطقة العربية، فكل الصراعات العربية الداخلية في ( العراق، وسوريا، وليبيا، واليمن، ومصر، والسودان) تقف وراءها قوى استعمارية بالتمويل والتوجيه، لتحقيق أهداف محددة منها إعادة تقسيم دول المنطقة، لحرمان المنطقة العربية من القدرة لا أقول على النهضة، بل على الوجود والبقاء دون مساعدة خارجية ( إميركية اسرائيلية أوربية).
الواقع الميداني يقول بالبنط العريض : إن العراق مقسم الآن في الواقع إلى ثلاث دول متنازعة رغم وجود حكومة حكومة اتحادية شكلية. ودولة الأكراد قائمة بحدودها وعلمها ورئيس وزرائها وجيشها واقتصادها، وعلاقتها مع الحكومة الاتحادية ضعيفة وقائمة على المصالح ، كعلاقة الدول بعضها مع بعض. ودولة الشيعية قائمة في بغداد وجنوب العراق، وتمسك برقبة الحكومة الاتحادية ، ولها جيشها ومليشياتها، ويتصرف قادتها على قاعدة أن العراق لهم، فإن لم يكن كله، فحسبهم المناطق الخاضعة لهم. وتحاول الطائفة السنية إقامة دولتهم في الإقليم الذي يتواجدون فيه، وقد جاء تقسيم العراق على حسابهم بإرادة أمريكية، وفشل عربي. لقد بات الرجل السني الهارب من الأنبار يحتاج لكفيل لكي يدخل بغداد؟! نعم كفيل كما تطلب دول الخليج من الأجنبي المقيم على أرضها. وأحسب أن فرص تقبل أحد الأطراف لحكم الآخر قد باتت شبه مستحيلة، وباتت أقاليم العراق مقسمة جغرافيا، وتكاد تكون الحدود قائمة بشكل أو بآخر كما هي بين الدول.
أما سوريا فواقعها في الميدان كواقع العراق، فهي تتجه نحو التقسيم كمخرج أساسي للحرب الداخلية ذات الامتدادات الخارجية التي تشبه الواقع العراقي شبها كبيرا، فثمة إقليم من سوريا يتجه نحو الدولة الكردية التي تشكل امتدادا لدولة الكرد العراقية، وثمة دولة علوية قد تكون هي الملاذ الأخير للعلويين وبقايا نظام الأسد، ودولة ثالثة أو أكثر من دولة للمكونات الأخرى من الشعب، وهذا ربما يعني أن الصراع قد يمتد لسنوات بعد سقوط نظام دمشق، كما تتوقع مراكز الأبحاث.
وأما ليبيا فإن مشروع تقسيمها إلى دولتين أو ثلاث يبدو أكثر إغراء لاسرائيل والدول الاستعمارية بسبب المساحة الكبيرة القابلة للقسمة على اثنين أو ثلاثة، لمنع قيام دولة ذات توجهات إسلامية أو قومية، وأطراف القتال في ليبيا الآن قائمون على التقسيم، ويتلقون التوجيه والإمداد من الخارج، لتكريس التقسيم من خلال منع انتصار أحدهما على الآخر، ومن خلال منع مصالحة أحدهما للآخر.
العراق ماض في التقسيم وفي رسم الحدود الجغرافية، والطائفية، والعرقية، والنفسية، وكلما طال الصراع كلما ترسخ التقسيم حلا مقبولا عند السكان للخلاص من القتل والدم. وسوريا ماضية في قبول التقسيم حلا وملاذا بعد أن لم يعد مكنة لأحد أطراف الصراع تحقيق نصر حاسم على الآخر، أو قبول أحدهم لحكم الآخر مستقبلا. وليبيا تعاني الخطر نفسه ما لم تلتق الأطراف على مصالحة تسبقي البلاد موحدة قبل فوات الأوان وغرق البلاد في الدم.
ما قاله ( نعمان) نائب رئيس الوزراء التركي هو قراءة واقعية تحليلية لا تحتاج إلى قراءة كف أو فنجان أو تنبؤ ، وهو ما يقرأه كل متفرج على الصراع من خارج الملعب، ولكن للأسف لا يقرأه جيدا الغارقون في الصراع والدم ممن هم داخل الملعب.