لم يكن الحُكم في قطر سيظل ملتزما سياقه التاريخي لو أنه تقبّل فكرة التهيّؤ السعودي والخليجي لإحباط التدخلات في الإقليم وتأجيج الصراع الطائفي فما يجمع الحكم في قطر مع إيران الشاهنشاهية ثم الخمينية قديم وعميق، ظاهر ومستتر. والعلاقة رشيقة ذات مشتركات عدة من بينها حقل الغاز الأضخم في العالم الذي تستخرج منه قطر ثلاثة أضعاف ما تستخرجه إيران التي يقع ثلث الحقل داخل حدودها المائية.
وتُعاد صياغة العلاقة في كل مرحلة وفق التطورات الإقليمية. فعندما انحازت أقطار مجلس التعاون إلى العراق في حرب الخليج الأولى التزمت إيران الحياد وحرصت على عدم استشارة طرفي الحرب وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، كافأت طهران الدوحة بالوقوف إلى جانبها في النزاع الحدودي مع البحرين على جزر “فشت الدبل”. وامتنعت الدوحة عن انتقاد التدخل الإيراني في البحرين، بل على العكس توصّلت في العام 2010 إلى تفاهم مع الحرس الثوري الإيراني على تعزيز التعاون الاستخباراتي والتدريبات المشتركة.
ولم يكن خافيا قبل أن تتأسس قناة “الجزيرة” أن زعزعة الأوضاع في المشرق العربي أصبحت هدفا قطريا، وأن السعودية تعد هدفا مضمرا، لا سيما بعد الصدام الذي يُسمّى “حادث الخفوس” في سبتمبر 1992، وهو اشتباك حدودي قصير راح ضحيته ضابط سعودي وجنديان قطريان، وانتهى بسيطرة السعودية على منطقة “الخفوس” لتقطع التواصل الجغرافي المباشر بين دولة الإمارات وقطر.
كان ثمة قلق وجودي لدى الحكم الذي كانت السعودية أصلا سببا في تكريس تراتبيته الراهنة، ذلك بحكم أن الشيخ أحمد بن علي آل ثاني، الذي تسلّم الحكم في العام 1960 وأصبح أمير الدولة المستقلة في العام 1971، كان على صلة بإيران، يتريّض فيها ويمارس هويّة القنص وأطيح به بينما هو في إيران، إذ انقض ابن عمه خليفة، جد تميم، على الرجل الذي منحه الثقة وتعمّد تكليفه نائبا للأمير ورئيسا للوزراء في اليوم التالي لتسلمه منصب أمير قطر المستقلة.
وكان أحمد بن علي آل ثاني يريد إنصاف خليفة، الذي لم يأخذ حقا متفقا عليه بتوليته الحكم عندما يشب عن الطوق. ولم يفعل خليفة ذلك إلا مطمئنا للتأييد السعودي. وكان الذي أطيح به هو الذي أورثه أبوه الحكم وقطع خطوات في اتجاه استقلال قطر ومراكمة عناصر الدولة فيها، قبل أن تجلو عنها بريطانيا واقترن بكريمة الشيخ راشد آل مكتوم وقد تبنى دستورا انتقاليا يدخل به إلى دولة اتحادية مع ثماني إمارات أخرى، وفق اتفاقية تمهيدية في العام 1968. كانت تلك الاتفاقية محصّلة تخوفات حكام الخليج من الجلاء البريطاني الفجائي الذي ربّما يعيدهم إلى مهب الرياح الإقليمية العاتية.
كان من بين حيثيات الجواب البريطاني على التخوفات إقناع الشيوخ بأن يعتمدوا دساتير تؤطر حدود إمارة كل منهم وتحافظ على بقائها السياسي. ولعل أنبل ما قام به أحمد بن علي هو القرار نفسه الذي كان السبب في إقصائه فيما بعد. فقد لازمه القلق من فعلة أبيه، عندما نكث بالعهد، ولم يولِ ابن أخيه خليفة ولاية العهد عندما ينضج. لذا اتخذ قراره الذي أجهز عليه سياسيا بإحالة صلاحيات الحكومة إلى خليفة وتسميته نائبا للحاكم. بعدها تهيّأ هذا الأخير لتشكيل حكومة جديدة مع إعلان الاستقلال وطفق يتصرف كوريث شرعي. ونام أحمد بن علي مطمئنا على وسادة اليقين بأن الصيغة الجديدة للبيعة التي حددها الدستور تجعل العشائر على دراية بأن نكث بيعتها للحاكم يضاهي الارتداد عن الدين.
واتكأ أحمد على فرضية أن حكمه ينبع من الشريعة الإسلامية. وأحسن خليفة اختيار اللحظة التي ينقضّ فيها على ابن العم الذي أتاح له النفوذ ومنحه الصلاحيات. تماما مثلما أحسن حمد بن خليفة اختيار اللحظة التي انقضّ فيها على والده وأطاح به. كانت وجهة سفر أحمد غير مرغوب فيها على مستوى الأوساط الفقهية باعتبارها دلالة على انفتاح أوسع على العَجَمْ. وكان خليفة صائبا في توقعه بأن إقصاءه لابن العم سيلقى التأييد السعودي للسبب الإيراني حصرا.
نفّذ خليفة انقلابه ثم مارس الحكم بذكاء في البدايات استرضى نواة الجيش والعشائر وارتجل مجلسا للشورى وخفّض المخصصات المقررة للحاكم، لتصبح، فقط، تساوي نحو أربعة أضعاف مخصصات رئيس الولايات المتحدة الأميركية في حينه ذلك علما وأن مداخيل النفط والغاز كانت ترتفع بمعدلات كبيرة لكن خليفة سرعان ما أظهر نزقا وضيقا بمجلس الشورى الذي قرر سابقا زيادة عدده. ومع تذمّر شريحة الوجهاء من سلوكه لم يجد طريقا لتعزيز قوته سوى إرسال نجله البكر حمد ليتأهل في كلية “ساند هيرست” البريطانية العريقة ثم يعود ليقف على رأس الجيش. كان ذلك هو خياره لكي يتلافى انقلابا من العائلة، إذ مازال حبل القلق مشدودا.
كانت تلك هي الخطوة التي رآها خليفة ضمانة لبقائه حاكما حتى الرمق الأخير. لم يتخيّل أن تجربة الصراع مع أبناء العمومة والعائلة تصلح للاستفادة منها وأخذ الحيطة لاحتمال نشوء الصراع داخل الأسرة الصغيرة. فما حدث هو أن خطوة التمكين لحمد هي التي أنهت حكمه بدل أن تبدّد المخاطر من حوله، ومن أهمها خطر ثلاثة من إخوته، هم سحيم وعبدالعزيز وناصر.
في بداية التمكين بدأ حمد بتصفية نفوذ أعمامه الأقوياء وعلى رأسهم سحيم وزير الخارجية النشط فبعد الإعلان عن تعيين حَمَد وليّا للعهد اعترض سحيم علنا وتوخى مساندة سعودية مأمولة، وكان رد فعل حَمَد أن دفع بقوة من الجيش لمهاجمة مجموعة مساندة لعمه سحيم في شمال قطر وحدث اشتباك. وفي الغضون أعلن خليفة من قصره الأميري عن نعي شقيقه سحيم ذي الثانية والخمسين إثر إصابته بـ”نوبة قلبية” حسب البيان، وبطلقة نارية، حسب المراجع الأجنبية كلها.
وإثر ذلك سيطر حمد على شؤون البلاد وتعمّد إظهار التميّز عن أبيه. بل إنه دفع 45 وجيها قطريا إلى التقدم بمطالبات سياسية واقتصادية ودستورية. وأشاع في البلاد أنه نصير الروح الشبابية. ولما رفض أبوه الإصلاحات تبنى هو ما سمّاها رغبة “الجيل الجديد” في التغيير لتلبية الحد الأدنى من متطلبات الدولة.
أطاح بأبيه في غضون سفر آخر مثلما فعل الأب مع ابن عمه ثم اختار صيغة عجيبة للتوازن ولنشدان السلامة: علاقات تجمع النقيضين إيران وإسرائيل. مع الأولى يتقدم بأوراق الاعتماد غير المسبوقة في الخليج إلى واشنطن، ومع الثانية يأمن على نفسه في ظل التناقضات ويحافظ على مصالح الغاز وعلى الدخل المُجزي من الحقل المشترك، وهو 37 مليار دولار سنويا في حينه.
على الرغم من ذلك، لم يلذ الحكم في قطر إلى الصمت والتعقّل على أن يحتفظ بمعادلات سياسته وإنما جعل له في كل عرس قرصا لإفساد معادلات الآخرين وخلط الأوراق وتصدير فائض قلقه الداخلي الذي لا يزال قائما بعد تولية تميم إلى الخارج.sa