د. عاطف ابو سيف
أثارت تصريحات بعض مسؤولي حركة حماس مؤخراً حول البحث عن إدارة لحكم غزة موجة من الانتقادات التي أعادت حركة حماس بعدها تصويب الحديث الذي قيل إنه فهم بطريقة خطأ.
من المؤكد عدم صوابية سحب تعليق أو تصريح لمسؤول في الحركة على مواقف الحركة بمجملها، أو القول إنه يمثل الموقف الحقيقي للحركة أو جميع أفرادها.
حيث إن البعض في حركة حماس قد لا يوافق على ما يرد على لسان بعض مسؤوليها حول إدارة غزة بشكل منفصل عن السياق الوطني العام، أو منح خصوصية شاملة لكل سياق، وهو ما يعني استكمال سلخ غزة عن المشروع الوطني.
وعليه تقع على «حماس» مسؤولية تحديد من يتحدث فعلاً باسمها، أو إلى مَن مِن «حماس» يستمع الناس.
لكن من حق الجميع التوقف مطولاً أمام مثل هذه التصريحات لأنها تعكس توجهاً لا يمكن إغفاله يعتمل في عقل البعض حول تمكين دويلة في غزة بحكم الأمر الواقع، لأنه من باب تسطيح الأمور التسليم بأن مثل هذه التصريحات عفوية وليست ترجمة لجملة من المقولات المؤسسة والرابضة عميقاً في الوعي والتي تحاول تسويق الأمر الواقع في غزة بوصفه مدخلاً آخر لإدارة الصراع.
ثمة الكثير من التفسيرات التي يمكن سوقها في سبيل تبرير ذلك ليس أسرعها تبادراً للأذهان حقيقة أن إنجاز المطلوب وطنياً يبدو ثقيلاً وصعباً في السياق الحالي، وبالتالي فإن غزة في اليد أفضل من دولة على الشجرة كما يمكن صوغ ذلك.
لقد أحدث الانقسام واقعاً تم سحب قطاع غزة فيه جانباً وإدارته بصورة منفصلة عن مجمل هياكل النظام السياسي الفلسطيني، دون أن يكون هذا التصرف ضمن الإجماع الوطني الفلسطيني بل رغماً حتى عن إرادة سكان قطاع غزة وعن الإرادة الشعبية الفلسطينية بمجملها.
إن واحدا من أهم ما ميز الهوية الفلسطينية طوال القرن الماضي من النضال ضد الاستعمار أولاً وسرقة فلسطين والاحتلال بعد ذلك كان هذا الإحساس بالمصير المشترك الذي يجعل العدوان على غزة قضية الشعب الفلسطيني أينما كان وتواجد، ويجعل المذابح التي يتعرض لها مخيم اليرموك قضية كل المخيمات الفلسطينية وكل التجمعات الفلسطينية من الناصرة إلى نابلس إلى غزة إلى عين الحلوة والوحدات. هذا الإحساس بالمصير المشترك هو جوهر تطور الوطنية الفلسطينية. حيث ومنذ بدايات القرن العشرين وخلال مسيرة معقدة ولكنها ناجحة تم توليف الوطنية الفلسطينية في مجابهة مشروع الاستيطان الصهيوني في فلسطين ونقيضاً له.
والوطنيات عادة حين تشكلها بحاجة للتحدي الخارجي حتى تجد اكتمالها في تكاتف أفراد الشعب حول قضية وهوية موحدة. والحقيقة – وهذا بحاجة لمزيد من التأصيل - لو أن الوطنية الفلسطينية كانت ناجزة بالشكل الكامل قبل النكبة وكان القرار الفلسطيني بيد الفلسطينيين وحدهم لربما لما ضاعت فلسطين بالشكل الذي تم، ولما وُجدت إسرائيل بموافقة العرب منذ توقيع اتفاقيات الهدنة.
بل أبعد من ذلك فإن المتمعن في رفض العرب دعم حكومة عموم فلسطين وإعلان دولة فلسطينية على ما تبقى من تراب فلسطين والذي شمل وقتذاك منطقة الحمى، يمكن له أن يستدل على أن نشوء الوطنية الفلسطينية كان حاسماً في تطوير أدبيات فلسطينية للصراع.
ما اقترحه في هذا السياق أن تطوير التصورات الفلسطينية لم يكن أمر صدفة بل كان ضمن تكّون حالة الإجماع الفلسطيني الداخلي.
تأسيساً على السابق فإن فكرة الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة كحل أولي يمهد لاستكمال مجمل المشروع التحرري لم تكن لعبة قمار وحظ، بل كانت ضمن تطور النسق العام لفهم الفلسطينيين لآليات تحقيق مشروعهم التحرري، ولم تُشكل في وعي أي فلسطيني انتقاصاً من الحقوق الوطنية بأي حال من الأحوال.
يبدو هذا الحديث مهماً حتى لا يقول قائل، كما يرغب البعض أو كما يدور في خلدهم، بماذا تفرق الدولة في غزة وحدها عن الدولة في الضفة وغزة طالما كنا غير قادرين على تحرير كل فلسطين، وقد يستعير مقولات الحل المرحلي الذي نادت به منظمة التحرير للبرهنة على أن دولة في غزة أفضل من لا دولة.
حيث إن الأمر لا يعدو ارتجالاً في قضية خارج النقاش بداية، ويعكس حالة من استدامة مرض وطني اسمه الانقسام، أو في أحسن الأحوال أو أكثرها حسن نية، ليّ يد الحكومة والخصم السياسي «فتح» من أجل الاستجابة للمطالب الحزبية الصرفة.
وعليه فإن طرح الدويلة المجزوءة في غزة ليس إلا تعبيراً عن ضعف الحال والعمل على استدامة العاهة الوطنية المسماة «انقسام».
فلم يكن الأمر مجرد البحث عن إدارة الحياة السياسية الفلسطينية وتعزيز حالة الفصل بين السكان الفلسطينيين، إذ إنه ورغم وجود السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة فإن أواصر الترابط وفكرة التمثيل لم تتوقف هناك.
ورغم بعض القصور الذي رافق مهمة بناء السلطة والتركيز الزائد على المهمة على حساب الشتات فإن النظام السياسي الفلسطيني لم يتوقف نموه أمام فكرة المنجز – غير المتحقق - للدولة الفلسطينية في الجزء المتاح من أرض الآباء والأجداد.
وربما المذابح التي تتم في اليرموك تقترح بعلو الصوت أن القضية الوطنية ليست قضية إدارة غزة أو الضفة بل هي قضية لاجئين.
وعليه من المحرم تطوير اجتهادات خارج سياق الإجماع الوطني والاجتماع الكلي للحالة الوطنية، ومن المحرم استخدام الوضع الشاذ الذي نتج عن الانقسام، أو تسخير المطالب الحزبية الضيقة، من أجل ليّ عنق المصالح الوطنية، وتثبيت وضعية غير سوية وجعلها قلب ومركز النقاش الوطني.
فالدويلة في غزة التي تحبذ إسرائيل أن تكون بديل الدولة الفلسطينية التي تمثل الكل الفلسطيني، لا يمكن لها أن تكون بداية مشروع تحرري وليست جزءاً منه.
وعليه فإن الانقسام الذي يشجع مثل هذه الأفكار الشيطانية لابد أن ينتهي، وتقع على كاهل الكل الفلسطيني إيجاد حلول سريعة لوضع القطاع الشاذ حتى وإن كانت مؤلمة.