د. عاطف ابو سيف
الكل يعرف المشهد. الكل شاهد تلك البسطة البسيطة على شاطئ البحر ويافطتها قليلة العبارات كثيرة المعاني «روتس الغلابة». المشهد الذي يعبر عن جزء من حقيقة غزة، المدينة التي شاخت دون أن تتمتع بشبابها. صورة من غزة من الخلف. غزة التي تحملت كل ما تحملت من اجل أن يظل جزء من ساحل فلسطين الأبدي موجوداً وحاضراً يذكرنا دائماً بشاطئ يافا وحيفا وعكا.
شاب أراد أن يسترزق بعد أن تخرج من الجامعة ولم يجد عملاً مثل عشرات آلاف الخريجين الذين يبدو أننا نحب أن نتناسى معاناتهم، فقرر أن يعمل على بسطة صغيرة على شاطئ البحر مثل أيضاً آلاف المواطنين الآخرين. البسطة الواقعة مقابل الشاطئ الذي يتفرع منه الشارع المفضي إلى فندق الروتس سماها كنوع من المناكفة الاقتصادية والاجتماعية «روتس الغلابة» حيث ببضع شواكل قليلة تتمتع وتجلس قبالة البحر وتأكل الذرة المسلوقة أو تشرب الشاي. الاسم اتكأ على مفارقة يفهمها أهل غزة وهي لا تخلو من موقف سياسي واجتماعي واقتصادي. البلدية تكسر البسطة على رأس صاحبها وتصادر الكراسي التي يضعها من أجل أن يسترزق من جلوس الناس عليها. بالمناسبة لا أحد يسأل الحكومة في غزة لماذا كل شاطئ الأماكن السكنية من السودانية حتى الشيخ عجلين يتم تأجيره شاليهات وكافتيريات واستراحات حيث إن لم يكن لدى المواطن الغلبان ما يدفعه ثمن الجلوس في إحداها لن يتمكن من الاستمتاع بالبحر. لماذا لا تترك مساحات فارغة للناس الذين لا يقدرون على دفع ثمن الجلوس في الاستراحة.
انظروا الموقف الرسمي في تبرير ما تم. من الغريب أن شخصاً يتحدث عن منظر الشاطئ والكورنيش من اجل أن يبرر فعلة البلدية. لأن من يقول هذا لا يعيش في غزة ولا يعرف واقع غزة. فهو مثلاً لم يقل لي لماذا لا يتم وقف ضخ المجاري في البحر وتلويث مياه البحر وقتل الأسماك وتلويث أجساد الناس الذين يستجمون فيه، ولم يقل لنا ماذا فعلت البلدية والحكومة للحد من هذه الظاهرة التي تهدد بحر غزة. لم يقل أين تذهب أموال الضرائب ولا التمويل الخارجي (على قلته) ولم يقل إن لم تكن هذه مهام الحكومة فما هي مهمة الحكومة الأساسية. أليست تلك التي حددها رب العلا في محكم التنزيل «وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف».
لكن يبدو أن من يبرر يستسهل الضحك على المواطنين، او أنه يظن أن هذا من حقه. من البشع أن يكون منظر شاب خريج مثقف وناشط قد استفز البلدية والحكومة والأمن من أجل أن يتم قمعه بهذه الطريقة ودفعه إلى التفكير في وضع حد لحياته. إنه اليأس الذي رمى بمئات العائلات الفلسطينية من غزة في عرض البحر وهي تعرف أن نسبة وصولها إلى شاطئ آمن تكاد تكون صفر. لكنهم فعلوا كما سيفعل آلاف آخرون لو استطاعوا.
القصة ليست قصة استبدال رئيس بلدية أو مجلس بلدي بآخر. لأن في هذا افتراضا ساذجا يقول إنه لو كان شخص آخر في موضع رئيس البلدية أو مجلس آخر مكان المجلس الحالي لما حدث ما حدث! في هذا تبسيط للأزمة وتسطيح للنقاش. وعليه فإن المطالبة بإقالة المجلس البلدي ليست إلا اختصاراً للأزمة وحرفاً للنقاش عن موضعه. لأن حقيقة أن أحدهم يجب أن يدفع ثمن ما حدث هي إعفاء للمستوى السياسي من مسؤولياته وإخلاء لطرفه. فالحل الذي يبحث عنه المستوى السياسي دائماً هو «كبش الفداء» الذي يمكن التضحية به لإسكات الناس. وتأسيساً على السابق فإن المناداة بإسقاط البلدية تحمل مجازفات مهولة أهمها أنها تعطي حلولاً بسيطة لأزمات عميقة. فأساساً البلدية لم تأت باختيار الناس وبالتالي يتم تدفيعها الثمن؛ بل جاءت بسبب رغبة مجتمع سياسي محدد وهي ليست إلا أداة لتنفيذ سياساته. ثم إن القول بأن الخطأ يكمن في البلدية يعني أن كل أزمات قطاع غزة تكمن في بلدياته، لأنه مؤسس على افتراضين خاطئين. الأول أن البلديات عندنا، ما شاء الله، تتمتع باستقلال تام عن الحكومة وعن المستوى السياسي وفق ما يعرف في بلدان كثيرة بنظام اللامركزية وتعزيز السلطات المحلية. والثاني أن البلدية فعلاً صاحبة سياسة تنفيذية خدامتية حقيقية يجب محاسبتها حين تقصر بها. وهذا الافتراض هو جوهر حرف النقاش عن موضعه.
إذ أن أساس الأزمة في الواقع السياسي الذي أفرز البلدية، وجعل دورها هامشياً، وجعلها أداة في يد الحكومة. هل سأل أحدهم كم رئيس بلدية تغير في السنوات الأخيرة وكم مجلسا بلديا تم استبداله وكم لجنة زكاة تم تغييرها. السؤال ليس مهماً، بالطبع، ولكن الإجابة التي قد تنتج عن السؤال هي المهمة. إذاً المشكلة في الواقع السياسي الذي شعاره «انقسام إلى الأبد». هذا الواقع هو ما جعل البلدية جزءاً من الانقسام ومعولاً آخر لهدم جسد الوحدة الوطنية المتهتك أصلاً. إذ إن البلديات التي جرت انتخابات لها وفق كل الأصول الديمقراطية صارت جزءاً من أدوات هيمنة الحكومة في غزة على الناس. هل تذكرون تلك الانتخابات التي جرت في غزة في نهاية العام 2004 والعام 2005 وكيف تم تسليم بلديات فازت فيها «حماس» لها دون مشاكل. بداية لعصر ديمقراطي فلسطيني بطريقة غير معهودة في واقعنا العربي. عصر انتهى حين تم حمل السلاح من أجل فرض واقع آخر.
بالتالي فإن النقاش يجب أن يتجه نحو ضرورة إنهاء الانقسام وإعادة كرة السياسة الفلسطينية إلى موضعها الحقيقي وتصويب بوصلتها إلى هدفها الأصلي بحيث يجب أن تظل عيوننا شاخصة شمالاً حيث فلسطين وتظل أصابعنا تشير شرقاً شمالاً حيث القدس مثلما كان يفعل الجندي المجهول (هل تتذكرونه. لقد رمى به في الشارع) الذي كان يذكرنا بأن هناك قدساً تنتظرنا. في الواقع السياسي الجديد لا يوجد جندي مجهول يحمل بندقيته ويشير نحو القدس.
السؤال ليس في تغيير رئيس البلدية الذي ربما لا يعرف شيئاً مما حدث، أو ربما إن عرف كان ذلك جزءاً من روتين عمله اليومي، بل في تغير الانقسام وإحياء المطالب بإنهائه وتفعيل المصالحة. فقط وقتها يمكن أن يكون النقاش في موضعه وتكون المطالب التصحيحية تقويماً للمطالب الوطنية وليست حرفاً للنقاش وتسهيل مهمة الخروج الآمن من الأزمة بأقل الخسائر.