في إشارة للمقالة السابقة حول التجربة الصينية، ربما من المفيد استحضار التجربة الإيطالية التي شكلت نوعاً من الكارثة لدولة بحجم وثقل وتاريخ إيطاليا. انتشر الفيروس بصورة مخيفة في الدولة العريقة المتقدمة في الطب وصناعة الأدوية، وباتت الوفيات اليومية تصل حد الألف فيما بدا أن الدولة على شفا الانهيار جراء العجز عن السيطرة على المرض، وانتقلت العدوى في الأوساط المختلفة حتى بات المريض والطبيب سواء في ذلك.
ومع هذا ثمة الكثير الذي يمكن أن يقال عن التجربة الإيطالية التي يمكن أن تدرس في مقدرة الدولة على الصمود في أصعب اللحظات وعدم الاستسلام لزحف الفيروس على كل مكونات المجتمع ومقدرة الأخير أن يكون معيناً للدولة ولأجهزتها في تلك الحرب. نعم فالبشرية في حرب لا يمكن توقع نهايتها حتى اللحظة فيما باتت التقديرات تطيل عمرها من وقت لآخر.
في تلك الحرب التي تخاض بلا أسلحة أو على الأقل لا تمتلك البشرية السلاح الملائم للقاتل بحكم تعذر التوصل إلى لقاح وعلاج للمرض يمكنانها من الصمود فترة أطول أمام مقدرة الفيروس على التحول والتبدل، ثمة حاجة لكافة الجهود من أجل السيطرة على تطورات الأمور. ومع تأكد الجميع من أن الخطر أكثر قوة من مواجهته بلا مبالاة، فهناك ثمة إدراك متزايد بضرورة تطوير أدوات للوقوف بحزم في وجهه. في التجربة الإيطالية ثمة الكثير الذي يمكن تعلمه.
مقدرة الشعوب على الحياة وإصرارها عليها يعكسان حيوية ووعي المجتمعات. وفي الحالة الإيطالية ربما أحد الأشياء اللافتة كان الإبداعات الكبيرة التي قدمها الشعب الإيطالي في ظل الجائحة، عاكساً روحاً فريدة في التمسك بالحياة وحبه لها والتغلب على الوباء. إن المشاهد المختلفة التي تم بثها من المدن والمناطق الإيطالية المختلفة حول احتفالات المواطنين على النوافذ والشرفات أو تبادل الأغاني من البيوت أو العزف منها، والاحتفال أيضاً عن بعد، والرسائل المختلفة والفيديوهات التي كان يتم تحميلها على الانترنت، دللت على تلك الروح الكبيرة التي لا يمكن تخيل إيطاليا دونها، ولا يمكن تخيل كيف تنتصر الإرادة الشعبية دونها، كما لا يمكن تخيل كيف تتكاتف الجهود الشعبية والحكومية دونها.
هذا التكاتف والإصرار على القتال ضد الفيروس أساس استمرار التجربة الإيطالية وفرادتها.
فالشعب الذي يريد الفيروس أن يفتك به ولا يملك الكثير من السلاح لمقاومته ينتصر عليه في حرب الإرادة.
وهذا درس مهم في مواجهة الجائحة، أن البشرية لا تنهزم وروح الإرادة قادرة على شحننا بطاقة غريبة وقوية تدفعنا للتحمل.
فبدلاً من الاستسلام لصرير عجلات شاحنات الموت وهي تحمل ضحايا الفيروس الخبيث يجب الاحتفال بالبقاء بالحياة بالإرادة.
والآن وفيما الكثير من الشعوب بجهود مختلفة تتعلم الدرس فإن المشاهد التي خرجت مبكراً من إيطاليا كانت درساً مميزاً في محاولات النفس البشرية هزيمة العدو الخفي عبر التمسك بالحياة.
يمكن استحضار النقاش الكبير حول الشعب والدولة. وهو نقاش جوهره العقد الاجتماعي كما صاغ منظرو العقد أدبياته، القائمة على التنازل الطوعي عن الإرادة الفردية من أجل سلطة عليا.
وجزء من النقاش الآن هو كيف يمكن للدولة أن تكون حامية للشعب. أحد الساسة الطليان قال خلال الأزمة إنه حان الوقت حتى تقوم الدولة بالتضحية من أجل الشعب فالشعب طوال كل الأزمات السابقة وخاصة في الحروب وقف بحزم من أجل حماية الدولة (إيطاليا) ولا بد الآن أمام فتك الفيروس بالشعب من أن تضحي الدولة بنفسها لكي تحمي الشعب. الجدل المعقد الذي يعيد النقاش حول دور الدولة والعلاقة التعاقدية مع الشعب. بالطبع ربما في الكلام السابق بعض المجاز لكنه المجاز الذي يكشف عمق الأزمة.
لم تكن الدولة لتنهار، رغم أن أحد أكبر الأزمات التي تواجهها إيطاليا الآن هو مقدرة الدولة على الصمود في ظل شبه انهيار النظام الصحي.
ثمة بعض الأخبار الجيدة وسط كل هذه الضوضاء تتحدث عن انحسار المرض في الجنوب ونجاح سياسات احتوائه على الأقل هناك، وهذه بدورها يمكن أن تكون دافعاً من أجل المضي قدماً من أجل محاصرته في كافة مفاصل الدولة.
وحتى لا تنهار الدولة يجب الاهتمام بالأفراد الذين يشكل وجودهم سبب وجود الدولة، من هنا فإن إصرار الدولة على البقاء والاستمرار وعلى تقديم الخدمات وإن بصيغ مختلفة أساس في انتصار الإرادة الجماعية، كما أن إرادة الأفراد أساس في تعزيز إرادة الدولة. هذا التكامل الذي أشرنا إليه سابقاً هو ربما جوهر التجربة الإيطالية.
لا يمكن تخيل تاريخ أوروبا في كل العصور من قديمها حتى معاصرها دون إيطاليا. هل يمكن تخيل أوروبا وحضارتها العريقة دون الإمبراطورية الرومانية، أو هل يمكن تخيل وصول المسيحية دين أوروبا الأول
دون الفاتيكان وما لها من قوة على نشر الدين في القارة عبر جيوش الإمبراطورية الرومانية ومفاصلها في القارة التي كانت تحكم أغلبها.
وهل يمكن تصور استعادة أوروبا لدورها التاريخي دون عصر النهضة الذي بدأ في المدن الإيطالية المختلفة وظهور العلوم وإحياء الكلاسيكيات. أيضاً يصعب كل ذلك.
ومع هذا فإن المصاب الذي حل بإيطاليا لن يكون قليلاً إذ إن البلاد ظهرت كأكثر ضحايا الفيروس وربما تجاوزت الصين في ذلك.
وأمام النظر بتفاؤل للمستقبل فإن معالجة تداعيات الأزمة لن تكون أمراً سهلاً. حتى سياسياً فالدولة التي أعطت أوروبا كل هذا تشعر بأن أوروبا تركتها وحيدة تواجه مصيرها، وهذا نقاش أشرنا له سابقاً هنا في معرض الحديث عن التحولات الدولية إثر انتشار المرض، وهذا يبدو مؤكداً.
عموماً هناك الكثير من الدروس التي يمكن تعلمها من التجربة الإيطالية التي تعكس روح الإصرار وقوة العزيمة في مواجهة المرض، وهي تجربة ستضاف للسجل الكبير الذي تتمتع به دولة بحضور إيطاليا في التاريخ وفي العلوم.
قد يهمك أيضا :
"كورونا" وعالمنا المعاصر
أبو سيف يؤكد أن المسرحيون الفلسطينيون يقدمون رسائل وطنية