بقلم : عاطف ابو سيف
أظهرت أزمة «كورونا» قوة العالم الافتراضي والفرص التي يتيحها للمواطنين من أجل التغلب على الكثير من الأزمات التي يواجهونها. وفي ظل أزمة تتطلب من الناس أن يلازموا البقاء في البيت ولا يختلطون مع بعضهم بعضاً فإن المساحات الافتراضية والتواصل الافتراضي الذي يوفره هذا العالم يبدو مغرياً ومتعدداً. من هنا فقد أعادت أزمة «كورونا» العالم الافتراضي بقوة على مشهد العلاقات بين الناس وإلى التواصل الذي كان يجب أن يصل إلى نقطة الصفر بينهم وبين مؤسسات الدولة والعالم الخارجي بفضل العزل الذاتي. فالعالم أكثر من أي وقت مضى يبدو افتراضياً بامتياز، او لعله لا يمكن له أن يواصل الحياة دون هذه الافتراضية.
والعلاقة الجدلية بين العالم الافتراضي وظهوره مع انتشار ثورة المعلومات وبين العالم الحقيقي استمرار للنقاش التاريخي في الفكر البشري بين العالم المتخيل والواقع، النقاش الذي أثاره أفلاطون قديماً ولم يغب عن وعي البشر وفكرهم أبداً، بل إنه ظل يعتمل ويتفاعل داخل المساجلات التي اثارها رجالات الدين والفلاسفة سواء. وربما أن البحث عن عالم آخر كان أحد افتراضات الدين الأساسية بحيث تم تقسيم العالم إلى واقع زائل وفانٍ وعالم آخر أبدي وخالد. وفي كل ذلك كان هذا التناظر من باب البحث عن مواءمة ممكنة، كان ينظر خلالها إلى «المفترض» أنه متخيل لا يمكن تحقيقه أو الإمساك به إلا «فيما بعد» أو عبر المخيال.
وبشكل عام فإن النقاش الفكري يقع ضمن الصراع الديني واللاهوتي والفلسفي، أما التحقق الفعلي فلم يكن شيئاً ممكناً لأسباب عدة. ويجوز أن التعمق أكثر في طبيعة تلك السجالات سيوفر مادة غنية للنظر في، ليس مآلات الفكر البشري وتطوره، بل أيضاً في مقدرة البشرية على صنع واقع آخر يعتمد على واقعها. وطبيعة الحال أن كل المتخيل كان منسوجاً من الواقع لأن مقدرة الإنسان على رسم ما هو افتراضي تقع ضمن حدود فهمه لما هو ممكن، بحيث لا يتجاوز المتخيل أو المفترض منطق ما يمكن أن يحدث.
هل كل شيء مفترض أو متخيل يمكن أن يحدث؟ هذا سؤال كبير على مستوى التفكيك والتركيب، لأن الإجابة عليه لا تعتمد على مكونات السؤال ذاته بل تتعداها إلى نقاش السياقات الأعم التي تطال مناطق بعيدة في الفكر والوعي. فهو يرتبط بالعموميات حول التصورات وتشكيلات الوعي الفردي والجماعي والنظرة العامة للجنس البشري حول الأشياء. وبالقدر الذي نجح فيه الجنس البشري في أن يثبت أنه أذكى ما نعرف من مخلوقات – لأنه ربما هناك مخلوقات لا نعرفها أكثر ذكاءً- بالقدر الذي ظل عاجزاً على تجاوز شرطه الحضاري. ويمكن لأفلام الخيال العلمي التي باتت المادة المفضلة لشاشات السينما أن تكون دليلاً كبيراً حول الطموح الذي لا يتم الانتقاص منه بالعجز فقط بل بالحيرة والانغلاق.
والعالم المفترض عالم غير موجود. لغة هكذا يمكن فهم الأمر. كما هو الأمر مع المتخيل لأنه غير موجود يتم تشكيله في الوعي. وبالعودة إلى العالم الافتراضي الذي نعرفه- وتبدو كلمة الذي نعرفه غريبة هنا- فإن العالم الذي يتم التواصل عبره بين البشر من خلال الشبكة العنكبوتية عالم غير موجود، لكنه يقدم للناس فرصة كبيرة من أجل أن يتواصلوا فيما بينهم، وفيما لا وجود له إلا أن نتائج وجوده موجودة. وهذا جوهر التناقض الأساس في هذا العالم، العالم غير الموجود ولكن الإحساس به وبتفاعلاته موجودة.
إن الخدمات الجليلة التي نستفيدها منه غير مسبوقة في تطور البشرية. من المؤكد أن هذا التطور هو ذروة رحلة العلم على مدار آلاف السنين، ولم يكن اكتشاف الإنسان للنار واختراعه للكتابة إلا خطوات أولى لنصل إلى هذا العالم غير الموجود الذي نتحقق من وجودنا خلاله. والعلم الذي كان وليد حاجة الإنسان للبقاء وللتغلب على الطبيعة سيواصل رحلته ولن يتوقف، وربما يأتي يوم يصبح فيه هذا العالم الافتراضي حكاية قديمة عن منجز لم يعد بذات الأهمية.
رغم ان سيرة العلم تدلل على تراكمية الاختراعات والاكتشافات وأننا لا يمكن مثلاً حتى الآن أن نتجاوز أياً من تلك الاكتشافات الكبرى والصغيرة في التاريخ من سقوط تفاحة نيوتن والآلة البخارية إلى علاج الأنفلونزا. هل يمكن تخيل كيف لنا أن نتعايش مع حالة العزل والحجر دون هذا العالم الافتراضي؟ لا أحد يمكن أن يجيب بأنه يمكن له أن يتعايش مع هذه الحالة دون هذا العالم. ليس بما وفره من مساحات افتراضية للتواصل وخلق علاقات وجعل الحياة ممكنة، بل أيضاً بتوفيره المعلومة وسهولة انتقالها، خاصة أن حالة تفشي المرض تتطلب توفر المعلومات وتحديثها أولاً بأول.
صحيح أن هذا خلق هوساً من نوع مختلف إلا أنه لا يمكن التغلب عليها. وفر هذا العالم الافتراضي مادة إضافية لهذا الهوس مع هذا، ومع هذا لا يمكن لنا تجاوزه وتخيل الحياة من دونه. مرة أخرى أظهرت قوة فيروس كورونا قوة العالم الافتراضي للاستجابة لمتطلبات السلامة والوقاية من المرض. ومع هذا يبقى السؤال حول المتحكم في هذا العالم الافتراضي وماذا لو قام بتوقيفه فجأة. هذا افتراض صعب لكنه يشير إلى أن العلم أيضاً يمكن احتكاره ويمكن أن يصبح وهو كذلك في الكثير من السياقات أداةَ هيمنة وقوة يستخدمها القوي ضد الضعيف.
وبعيداً عن هذا النقاش ثمة ضرورة بالنظر في المستقبل في سبل امتلاك مصادر القوة تلك خاصة في التحكم بالانترنت والعالم الافتراضي الذي يولد معه كما طرق نقل المعلومات التي يوفرها. وباب الظن أن مثل هذا التفكير لابد أن يصبح هاجساً في المستقبل.
قد يهمك أيضا :
عن الموقف العربي مرة أخرى
أيضاً المجتمع الدولي يتغير