د. عاطف ابو سيف
يوم أول من امس، أعلن فوز البرلماني العمالي جيرمي كوربون برئاسة حزب العمال بعد منافسة شرسة مع اجنحة الحزب المختلفة التي تكالبت من اجل منع فوزه. كوربون دخل المنافسة متأخراً وهو الأقل بين المتنافسين تقدم أعضاء برلمان عن الحزب لترشيحه، إلا أنه وبعد أقل من أسبوع من ترشحه باتت أسهمه تصعد في الاستطلاعات وبات المنافس الأهم في حلبة الصراع. بل إن قادة الحزب التاريخيين وضعوا كل ثقلهم من اجل أن يفشل كوربون خاصة رئيس الوزراء السابق توني بلير الذي قاد حملة شعواء من اجل اسقاطه ليمنى في نهاية السابق بأن مرشحته حصلت على أقل نسبة من الأصوات حيث لم تتجاوز الأربعة بالمائة.
حصد كوربون قرابة 60 بالمائة من أصوات الناخبين حاسماً التنافس من الجولة الأولى. قدم كوربون نموذجاً جديداً للقيادة الحزبية التي تعتمد على القواعد الشعبية أكثر وتخاطبها في تجمعاتها وليس من وراء شاشات التلفاز، فهو دائم الحضور في الشارع وفي التظاهرات حتى قبل أن يصبح ممثلاً عن منطقة «إيزلنجتون» في لندن. أفكار كوربون على الرغم من حديتها إلا أنها بدت جذابة للمواطن البريطاني فهو يتحدث في صلب القضايا التي يمكن لحزب يساري أن يتحدث عنها. إنها القضايا التي تركها حزب العمال في عهد بلير في اقترابه الفجائي من مربع الوسط وربما اليمين حيث أن بعض وزراء بلير كانوا محافظين أكثر من المحافظين. كوربون يقول ببساطة إن على الدولة أن تتدخل من أجل حماية الطبقات المهمشة، ومن اجل أن لا يبقى الاقتصاد في يد مجموعات وشركات لا تعرف إلا الربح. أيضاً في القضية الأوروبية فإنه يتحدث لصالح بقاء بريطانيا داخل الإتحاد الأوروبي ويقول إن مصلحة لندن تقتضي ذلك. وهو يذهب أبعد من ذلك للمطالبة بتحسين العلاقات مع موسكو بوصفها قوة عالمية شريكة في صناعة القرار. أما بشأن فلسطين فإن الشيء الهام هو أن كوربون يعد من اهم مناصري القضية الفلسطينية في البرلمان البريطاني وله مواقف متقدمة في ذلك تتعلق بالحقوق الفلسطينية. حتى حين حاول خصومه مهاجمته بالقول إنه معادي للسامية بسبب حضوره إحدى اللقاءات والتي أشار فيها إلى ضرورة الحوار مع حماس وحزب الله قال إنه مع حق إسرائيل في الوجود ولكنه ضد الاحتلال «ولا يمكن لك أن تتوصل إلى اتفاقات سلام إن لم تتحدث مع الناس الذين ستتوصل معهم لاتفاق سلام». بلير يعرف ماذا يقصد كوربون حين يقول إنه سيقدمه للمحاكمة بسبب مشاركته في الحرب على العراق وجرائم الحرب التي تم ارتكابها هناك.
السؤال الحقيقي يظل هل سينجح كوربون في بناء حزب العمال المنهار وفي اعادته للصدارة. يبدو ان امامه خمس سنوات لفعل ذلك سيواجه خلالها الكثير من الصعاب. وربما الأهم إن نجح في بناء الحزب هو أن يظل على مواقفه واقناع المواطن البريطاني بالكثير من المواقف الثورية التي يحملها. بصعود كوربون فإن السياسة البريطانية ستعيش فترة يعود فيها القائد الشعبوي القادر على إنزال النقاش حول السياسات الوطنية والخارجية إلى الشارع وفي المقهى والبار. وستكون أول اختبار له هو المعركة لانتخاب عمدة لندن العام القادم حيث فاز قيادي عمالي من أصول باكستانية (صادق خان) في بطاقة ترشح الحزب، من الطبقة العاملة حيث عمل والده سائق حافلة عمومية في لندن.
المشهد الآخر كان المسيرة الضخمة التي خرجت يوم أول من أمس تطالب الحكومة وكاميرون باستيعاب لاجئين سوريين. عشرات الآلاف يهتفون بأن اللاجئين مرحب بهم وتطالب بوقف الحرب على سورية. فتاة تبدو طالبة جامعة طبعت كلمة «ترحيب» بالعربية مقطعة حرفاً حرفاً «ت.ر.ح.ي.ب». يبدو أنها نقلتها عن ورقة أو عن موقع الكتروني. المتحدث خلف المايكرفون يقول إنه يشعر بالخجل مع تصرفات حكومته في ترددها في تقبل اللاجئين ويذكر أن المهاجرين هم الذين ساعدوا في بناء بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية. شابات يحملان يافطة ضخمة مكتوب عليها «ألمانيا - بريطانيا، النتيجة واحد صفر لصالح ألمانيا» في إشارة إلى استيعاب الأخيرة للاجئين السوريين. الفتيات يجلس أمام بيت رئيس الوزراء في « 10داووننج ستريت» يهتفن» أعطونا عدل نعطيكم أعضاء في البرلمان». كوربون لم يفوت التظاهرة إذ بعد إعلان تتويجه زعيماً لحزب العمال في قاعدة الملكة فيكتوريا للمؤتمرات توجه مباشرة إلى التظاهرة حيث ألقى خطاباً هناك أعاد فيه مواقفه المناهضة للحرب وللسياسات الخارجية الخاطئة التي تنتهجها الحكومة البريطانية منذ بلير إلى اليوم.
آلاف المشاهد المختلفة التي تعكس أحساساً عالياً بالتضامن الذي خلت منه شوارع المدن العربية للأسف. حتى بات المرء يخجل أن يتحدث عن تقصير الدول العربية في موضوع اللاجئين السورين بل وفي تورط بعضها في تأجيج الأزمة. رغم أننا يجب أن ننتبه أن بعض الدول العربية استوعبت اللاجئين قبل أوروبا خاصة الأردن الذي يستضيف أكبر عدد منهم على رغم من طاقاته الاقتصادية، ولبنان والعراق وأيضاً تركيا. إلا أن الدول الغنية للأسف كما يقول المثل «دان من طين ودان من عجين».
المشهد الأخير كان خلال ندوة أدبية شاركت فيها بقراءة مقاطع من كتابي بالإنجليزية «الزنانة تأكل معي». جزء كبير من الحضور كان من جمعية التضامن مع فلسطين. الشبان والشابات الذين يقطعون مئات الأميال للمشاركة في أي نشاط سياسي أو فني او ادبي يبرز اسم فلسطين. يجمعون مصاريف رحلاتهم ونشاطاتهم من مصروفهم اليومي. إحدى السيدات تجلس بجوار طفلها الذي لم ينه عامه الثاني عشر. بعد الندوة اقتربت لتعرّفه على وتشتري له مجموعة من الكتب عن فلسطين. قالت لي فيما بعد إنه تحضره معها إلى كل نشاط عن فلسطين من أجل أن يكبر وتكبر معه قضية التضامن مع فلسطين. طبعاً غني عن القول إن السيدة بريطانية الأب والأم كما طفلها. لكنها تحرص على أن يصبح ابنها حين يكبر متضامناً مع فلسطين. هكذا يساهم هؤلاء المتضامنون في مساندة قضيتنا فيما الله اعلم أغلب سياسيينا تجد أولادهم غير مسيسين وربما بتشجيع من آبائهم فمنهم من يتعلم ركوب الخيل في مدارس خاصة، وكثيرهم يتلقى تعليمه في الخارج، وأكثر الوصايا التي يسمعها «خليك بحالك»، فيما تلك السيدة البريطانية تدفع بطفلها لأن يكون جزءاً من حركة التضامن قبل أن يبلغ الحلم، لا تريده أن يظل في حاله، تريده أن يكون معنا. شكراً لها.