د. عاطف ابو سيف
لو قدر للمرء أن يمتلك حقيبة مليئة بالأمنيات مثل طير في قفص، كلما تحقق منها أمنية أطلقها في الهواء ليخفق جناحاها بحرية وسعادة، ولو قدر له أن يسعى في مناكبها من اجل ان يطلق عقال أمنياته مثل قربة ريح مثقوبة، ولو وقف المرء بعد ذلك على سني عمره يعدد ما فيها من فرح وأحزان ووجد ان كفة الفرح طافحة بالخير، لو عرف ان خلاصة كل هذه سعادة مطلقة لظن أنه يحلم.
نفسي أن أتصالح انا والكهرباء، أن نصبح أصدقاء بمعنى الكلمة. يفتقد الواحد منا الآخر، يشتاق له، لأن علاقتي مع الكهرباء علاقة من طرف واحد: أنا فقط الذي يشتاق لها، أنا الذي يفتقدها، انا الذي أجلس بفارغ الصبر أعد الثواني المتبقية حتى وصولها مثل عاشق يقف في محطة القطار ينتظر وصول محبوبه. يعني حباً من طرف واحد. بل أبعد من ذلك هي لا تعاملني حتى كصديق قديم تتذكره بالخير، فعلى الأقل مر زمن ليس بالبعيد كنا أصدقاء مقربين جداً، حيث كانت تقطع للحظات، وحين تغضب لساعات قليلة. لو كانت باقية على العشرة ولو عزت عليها الأيام الخوالي، لكانت على الأقل أبقت على شعرة معاوية. بل هي تمعن في الردة والحرد ولوي البوز. فما أن أحاول أن أتأقلم على مواعيد وصولها حتى تفلت من بين يدي كما يفلت الماء من بين الأصابع، تهرب بخفة وثقل رياح المنخفض الجوي «هدى». قد يستغرقني الأمر أسبوعاً وأنا أحاول أن أحفظ جدول انقطاع التيار الكهربائي، وقبل أن أهنئ نفسي بأنني نجحت أخيراً في حفظ المواعيد حتى تتغير دون سابق إنذار. في الحقيقة في مرات كثيرة أشفق على عامل الشركة الذي يقوم بقطع التيار بعد سويعات من وصوله، إذ إنه يتلقى دعاوى بالهلاك وقطع اليد والحرمان أكثر من تعداد الشعر في رأسه.
نفسي أيضاً أن تسمعني شركة الكهرباء وتسمع شكاوى مئات آلاف المواطنين أمثالي. الشركة لا تقيم وزناً لكل شكاوى المواطنين. كما ان نفسي أن يقوم مسؤول فيها بتقديم شرح منطقي لما يحدث بشرط ان لا يرمي كل شيء على كاهل الآخرين وكأن دوره في الشركة ليس إلا تقديم الأعذار والتبريرات وليس الحلول.
نفسي أن ينتهي الانقسام حتى لا يصبح لأحد عذر في رمي كل فشل غزة على كاهله، حتى بات المرء يمكن أن يصدق أن جارته تطلقت من جارهم بسبب الانقسام، او أن تحصيل ابنه متدنٍ في المدرسة بسبب الانقسام (هناك من يقول إن هذا وارد). نفسي ان ينتهي هذا الشيء المقيت المسمى انقساماً حتى نرتاح ونرتاح من الأعذار فالكهرباء لا تأتي، بسبب الانقسام، وإعادة الإعمار واقفة مثل كرفانات أصحاب البيوت المهدمة بسبب الانقسام، والمجاري تطفح امام أول زخة مطر بسبب الانقسام، وربما الجو بارد وعاصف بسبب الانقسام. مرت الآن أعوام ثمانية وربما تمر أعوام ثمانية عشر وثمانية وعشرون والانقسام بكامل شبابه وعنفوانه. ونفسي أيضاً أن نطلب من كل من يريد أن يحمل غزة أكثر مما تحتمل متدثراً بعباءة الانقسام أن يتقي الله فينا قليلاً وان يدرك أننا مللنا، وان حلمنا صار تجاوز البقع السوداء التي تركها الانقسام على أجسادنا. من منا لم يمل كل الأسطوانات المشروخة التي يرددها الكثيرون حول الانقسام! من منا لا يساوره الخوف من أن يموت قبل أن يموت الانقسام! من منا لا يحلم بأن كل ما يجري كابوس وليس واقعاً يعيشه! من منا لا يريد لهذه اللعبة أن تنتهي ويبدأ بكتابة القصيدة!!
نفسي أن أقرر أن أسافر وأن أحمل حقيبتي كما يفعلون في الأفلام واتجه صوب المطار أو الحدود وأغادر مثلما يفعل أي مواطن حر وشريف في أرضه. أن لا أفكر مليون مرة قبل أن يمر خاطر السفر ببالي، فأتعذب وأتألم لأنني اعرف أن السفر من غزة مثل الخروج من خرم الإبرة، وأن التفكير فيه متعب وممل وجارح للمشاعر الوطنية. نفسي ان يكون السفر مثل أي شيء آخر في الحياة في متناول اليد - هل من يقول إن ثمة أشياء كثيرة في غزة ليست في متناول اليد؟. على الأقل أن يكون ثمة حدود وثمة فرص لعبور الحدود. غزة سجن كبير، حتى كلمة كبيرة تبدو في غير محلها لأن السجن سجن حتى لو كانت مساحته مئات آلاف الكيلومترات، طالما لا تقدر أن تخرج منه. فعل الإرادة الغائب والعجز الأكبر من مقدرة التحمل، والحاجز الأعلى من قفزتك في الهواء - هذا إن تمكنت من القفز.
نفسي أن يتمكن أطفالي من أن يروا العالم خارج غزة؛ لا أن يكبروا مثل معظم سكان غزة وهم لا يعرفون شكل العالم خارجها. كل سنة أعدهم أن نقوم في الصيف بإجازة خارجية؛ على أقل تقدير لمصر الأقرب والأسهل في الوصول او تركيا. وكل سنة أعرف أن عرقوباً كان سيخجل مني وهو يسمعني أعدهم، لأنه يعرف مثلي ان التخطيط للحظة القادمة في غزة حلم لا يصير حقيقة حتى بمعجزة.
نفسي أن أركب البحر من غزة، ركبته من غيرها لكني مثل كل سكان غزة لا نعرف طعم السفر من بحر غزة. يبدو البحر لوحة جميلة معلقة على جدار الغرفة الكبيرة، غرفة السجن الكبيرة التي اسمها غزة، لكنها صورة لا تعبرها إلى ما خلفها. تقف قبالة الموج وتعرف ان الموجة التي تضرب قدميك أكثر حظاً منك لأنها سافرت بلاداً وبلاداً وجابت شواطئ وشواطئ، اما انت فتقف امام البحر لا تعرف منه إلا صخبه وغضبه والحمم التي تصدر من البوارج الرابضة فوق جسده المائج.
نفسي أن أذهب للسينما مساء الخميس مع أطفالي أو أصدقائي أو ان اذهب للمسرح أو للمكتبة العامة. نفسي أن أحلم بالمستقبل ولا أجدني أفكر في العقبات لا في الفرص المتاحة، أن انظر بخفة في الغد ولا أجهد عينيّ دون أن تريا شيئاً، أن أقف على تفاصيل اللحظة القادمة بقليل من الثقة دون ان تواجهني تفاصيل مضادة تبدد كل ما أحلم به.
عام جديد تبدو فيه الأمنيات مغرية ويبدو التقاط المستقبل أكثر طموحاً رغم ضبابية الجو وصعوبة الرؤية وقسوة الواقع.