د. عاطف ابو سيف
كان مصير غزة المجهول دائماً أحد أهم مخاطر الانقسام، إذ ترتب عليه ضمن أشياء كثيرة فصل غزة عن مجمل المشروع الوطني وجعل مصيرها يختلف تماماً عن المصير العام للهم الفلسطيني المشترك. وربما مع مرور الزمن تمظهر خطاب "غزي" خاص يتحدث عن مصير غزة. لم تكن "حماس" وحدها من يتبنى هذا الخطاب بل أيضاً بعض أصحاب المطامع الشخصية والأهواء الفردية داخل الحركة الوطنية الذين لا يحققون حلمهم إلا حين يتم الحديث عن غزة. الخطر في كل ذلك أن النتيجة الحتمية لكل هذا تعني جملة أشياء أهمها أن لا شيء اسمه مشروع وطني يمكن له أن يستمر. وأن غزة سيكون لها مصير مختلف عن مجمل مكونات الصراع. فالمقاومة غزاوية والحصار على غزة والميناء هو ميناء غزة والمطار مطارها. (لا شيء يحدث في القدس ولا في الضفة ولا لأهلنا في الشتات)، وكثير من الكلاشيهات التي تسيء لتاريخ الشعب الفلسطيني ولشهدائه العظام.
ربما كانت واحدة من أهم إنجازات النضال الوطني التحرري الفلسطيني منذ أكثر من نصف قرن هي صياغة المصير المشترك للشعب الفلسطيني الذي توزع في مناف عديدة وتشتت تحت أنظمة متباينة، لم يكن يهمها مصير الشعب الذي ضاع وسرقت بلاده بسبب تقصيرها، بقدر ما كانت تتاجر بمصيره إلا القلة منهم. إلى أن جاء النضال الفلسطيني وجاءت منظمة التحرير وفصائل الثورة وخلقت هوية نضالية مشتركة تعتمد على أهداف مشتركة وليست مناطقية للنضال التحرري، وقالت، إن الشعب الفلسطيني ليس مجرد مجموعة لاجئين بل هو شعب له تطلعات سياسية مشتركة. وبغض النظر على ما اعترى الحركة الوطنية من أزمات ومرت به من مشاكل وربما اخفاقات، إلا أن الشيء الجامع الأهم كان هذا المصير المشترك. وفي اللحظة التي يتم فيها التنازل عن هذا المصير المشترك من أجل البحث عن مخارج آنية لأزمات مناطقية، فإن ثمة من يحكم بالإعدام على مستقبل شعب بأكمله ويحرض البعض الآخر منه للبحث عن حلول آنية تتوافق مع مصائرهم المحلية.
إذا كان البحر غزاويا لأنه يقع في غزة وليس فلسطينيا لأنه الامتداد الطبيعي ولأنه ما تبقى من ساحل فلسطين التاريخية الممتد من رأس الناقورة إلى رفح، فهل يحق لأحد أن يفاوض على ميناء لغزة فقط. إذا كان الأمر كذلك هل يحق لسكان شمال غزة أن يفاوضوا أيضاً حول مصيرهم لوحدهم ويستقلوا بذاتهم لأن معبر "إيريز" يقع في منطقتهم ولا بأس لو حرمت باقي مناطق غزة من الوصول إلى "إيريز". هل من يقترح على سكان رفح أن يفاوضوا نيابة عن رفح لأن لديهم الممر البري الوحيد مع العالم العربي.
بعض قيادات "حماس" أقر بأن الحديث يدور عن اتفاق إنساني وليس سياسيا. ورغم ما يحمله هذا القول من محاول تبرير وربما تقليل من الصدمة، إلا أن فكرة الاتفاق الإنساني بحد ذاتها أكثر خطورة من الاتفاق السياسي لأنه يعيد القضية وتعريفها إلى مربع الهيمنة الإسرائيلية وروايتها عن الصراع. فالصراع ليس سياسياً إنما هو مشكلة إنسانية نتجت عن حروب استقلال إسرائيل وتخلصها من "الاحتلال البريطاني" ومن الوجود العربي "غير الشرعي" في أرض إسرائيل. هذه المآسي الإنسانية يجب حلها من خلال تحسين حياة الناس وتطوير اقتصادهم وتسهيل امورهم اليومية. سلام نتنياهو الاقتصادي.
وبالتالي فإن المطار المزمع أو الميناء المزمع ليسا رمزين من رموز سيادة الشعب على أرضه ومعابره، بل هما وسيلتان من أجل التخفيف من معاناة الناس. والأخطر من ذلك أننا في اللحظة التي نسلم بها بهذا المنطق فإننا سنصبح جاهزين للتفاوض على استبدال هذه التسهيلات بتسهيلات أخرى. فهما ليسا إلا أدوات لتخفيف معاناة الناس. ماذا لو جئنا بأدوات أكثر نجاعة في تخفيف المعاناة. لكن حتى ذلك على وصف أحد الساسة فإن الأمر لن يكون أكثر من "إيريز مائي" و"إيرز بحري". وسنسأل مرة أخرى "وين دانك يا جحا؟".
القصة الأخرى هو حقيقة أن السيد بلير يتفاوض مباشرة من السيد خالد مشعل. إذاً هي مفاوضات مع حركة حماس حول قطاع غزة. وبذلك فإن "حماس" تثبت ما يقوله خصومها أنها لم تتخلَ عن السلطة في قطاع غزة وإنها مازالت تحكم القطاع، وهي من يقرر مصيره، وأن الحكومة الفلسطينية المسماة حكومة توافق ليست إلا طربوشا. السؤال الأهم إذا كان لا يوجد ما يخشاه الشعب الفلسطيني لماذا لا تدار هذه المفاوضات مع قيادة الشعب الفلسطيني الشرعية التي أقرت "حماس" بأنها من يدير شؤون المفاوضات. والأكثر خطورة أن هناك من يصر على اللغو والكلام المقعر بالتمييز بين مفاوضات ومفاوضات. إن الفرق هو مثل الإصرار على أن ثمة فرقا بين الزواج الشرعي من حيث الممارسة وما يترتب عليه من علاقات جسدية وبين زواج المسيار أو المتعة.
لكن أخطر ما في الأمر أن يتم تصوير ما يجري بأنه ممر إجباري للخروج من المأزق. الكل التفت لتصريح العائد إلى المشهد خالد مشعل وهو يقول إنه لا يلومن "فتح" ولا يلومن "حماس" على عدم تحقيق المصالحة. فكأنه يريد أن يقول إن الانقسام وجد ليبقى وبالتالي لا حاجة لمحاولة القضاء عليه. ويبدو أن المفاوضات مع بلير ومع إسرائيل أسهل من الحوار الوطني. أظن أن أصغر طفل في غزة كما في كل مكان فيه فلسطيني يعرف أن حل الانقسام يعني الذهاب لانتخابات سريعاً.
يستهوي البعض اللعب بمشاعر الناس حيث إن المواطنين في غزة مخنوقون بعد ثلاث حروب فتاكة تعرضوا لها وحصار مقيت وعدم وجود كهرباء وما شابه. ربما سيبدو من المنطقي إذا سألت الناس حتى هؤلاء المحسوبين على خصوم "حماس" السياسيين من حركة فتح: هل تؤيد تخفيف المعاناة عن الناس في غزة واقامة مطار وميناء، الكل سيقول نعم. ولكن لو سألت السؤال بالصيغة الصحيحة: هل أنت مع فصل غزة عن الضفة الغربية.
لا بد أن يصرخ أحدهم: يا جماعة كان عندنا مطار وميناء وكانت الكهرباء لا تقطع وكان عندنا ممر آمن! هل هذه المشكلة.
أن ما يحدث أن أحدهم يظن أن الأمر لعبة ليغو حيث القطع المختلفة. امسك بقطعة واحدة وأراد لها أن تكون كل اللعبة. دون ان يعرف أن قطعة واحدة لا تبني شكلاً وأن طبيعة قطع الليغو لا تكتمل إلا بتداخلها والصاقها مع القطع الأخرى.