طلال عوكل
قليل من العقل والموضوعية يكفي لأن يدرك السذج من الناس، أن إسرائيل قطعت شوطاً كبيراً، نحو تنفيذ مخططاتها التي لا ترى فيها حقوقاً للفلسطينيين، لا عودة ولا قدساً، ولا دولة قابلة للحياة. كل من يتجاوز هذه الحقيقة، إنما يسعى لمنح الإسرائيليين المزيد من الوقت اللازم لهم لحسم الأمور على الأرض، عبر وقائع سيكون من الصعب إن لم يكن من المستحيل تجاوزها.
هذا هو ما تفعله الولايات المتحدة، وحلفاء إسرائيل، الذين لم تعد تسعفهم الذرائع والمبررات للتغطية على تواطئهم وسوء نواياهم تجاه الإقليم برمته، وتجاه القضية الفلسطينية التي تشكل مركز وجوهر الصراع في المنطقة العربية.
قد يعول البعض على الوعود الأميركية، أو على بعض الظواهر الثانوية في المجتمع الإسرائيلي، التي أخذت تطالب نتنياهو وحكومته، بتبني المبادرة العربية، والعودة إلى طريق السلام، غير أن لا هذه الوعود ولا تلك الظواهر، غائبة عن حسابات الحكومة اليمينية المتطرفة التي تمضي قدماً في مخططاتها وهي تدرك ما تعنيه كل هذه المراهنات.
قبل أيام تظاهر نتنياهو بأنه يرغب في تهدئة الأوضاع في القدس، وبأنه تراجع عن مخططاته بشأن ولاية الأوقاف الأردنية على المسجد الأقصى، كان نتنياهو كعادته كاذباً مراوغاً، وكان الرئيس محمود عباس الذي قابله الرغبة في التهدئة صادقاً، لكن ما يجري في القدس، يؤشر إلى وجهة واحدة وهي التصعيد إلى أبعد مدى ممكن.
البعض يذهب في تفسير الأمور على نحو يعفي أو يقلل من مسؤولية نتنياهو وحكومته، بالحديث عن أن دور المستوطنين وحركتهم تجاه القدس والمسجد الأقصى، قد خرج عن قدرة الحكومة ورئيسها عن السيطرة. بعض آخر يحاول استظهار معركة أو أبعاد أخرى لما يجري في القدس، من حيث أن ما يجري يظهر سيطرة الحركات الإسلامية عليها، غير أن لا هذه ولا تلك من الذرائع تصلح لإعفاء حكومة نتنياهو من مسؤوليتها عن تدهور الأوضاع.
إسرائيل في القدس لتنفيذ مخططاتها، واستثمار الوقت بكل ما أوتيت من قوة، كثفت من إجراءاتها الأمنية والقمعية عبر المزيد من قوات الجيش والشرطة والأمن الداخلي، الذي يؤدي إلى المزيد من البيوت المدمرة للفلسطينيين والمزيد من القتل والقمع والاعتقال. كان من الطبيعي إذاً أن ينهض الفلسطينيون لحماية مدينتهم، واقصاهم، وأن يدافعوا عن كرامتهم وحياتهم من خلال استخدام ما يقع تحت أيديهم. معتز حجازي استخدم مسدسه، للثأر من الحاخام يهودا غليك، ودفع حياته ثمناً لذلك، ولكن ابناء القدس تسلحوا بإرادتهم وحبهم لوطنهم، ودافعوا عن أنفسهم بأشكال تنتمي إلى المقاومة الشعبية. من يملك الحق في إدانة فلسطيني يقوم بدهس بعض غلاة المتطرفين، حين يصحو في الصباح الباكر على صراخ هؤلاء وهم يقتحمون المسجد الأقصى، وينكلون بالمرابطين فيه؟ الفلسطينيون في القدس لا يملكون أسلحة ثقيلة أو خفيفة لكنهم يملكون إرادتهم، وقدرتهم على الإبداع في استخدام أشكال من المقاومة لا تستطيع قوات الاحتلال المدججة بالسلاح من ردعها إلاّ عبر إجراءات عنصرية كمنع الفلسطينيين من ركوب حافلات النقل العام كما هو حال اليهود.
بعد تصريحه الكاذب حول رغبته في التهدئة، أعلن نتنياهو الذي يرى القدس في مكانة لندن وباريس بالنسبة للإنجليز والفرنسيين أعلن عن الموافقة على بناء خمسمائة وحدة استيطانية جديدة، ويوم أمس أعلن رئيس بلدية القدس عن بناء نحو مئتين وخمسين وحدة أخرى.
كانت تلك الطريقة التي يعبر عنها نتنياهو وحكومته عن رفضهم لما قيل عن مبادرة يحضر لتقديمها وزير الخارجية الأميركية جون كيري، لحمل الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على العودة إلى المفاوضات استناداً إلى رؤية معينة وتوقيت محدد. وكانت تلك الطريقة المعهودة، لحكومة نتنياهو، حين يصل إلى المنطقة مسؤول أميركي أو أوروبي للبحث عن السلام.
المسؤولة الجديدة عن السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي قادمة للمنطقة، يسبقها تصريح تتحدث فيه عن أن مهمتها البحث عن تحقيق رؤية الدولتين، ولذلك كان على نتنياهو أن يقرر سلفاً نتائج زيارتها بالإعلان العملي عن الفشل.
أمام هذا التصعيد الخطير في أوضاع القدس، كان لا بد من أن يحسم الطرف الفلسطيني المسألة بدون تأخير، فكل تأخير لا يفيد إلاّ في تنفيذ المزيد من المخططات الإسرائيلية الهادفة الى تهويد القدس وتقسيم المسجد الأقصى زمانياً ومكانياً.
انتهت الانتخابات النصفية الأميركية للكونغرس بفوز الجمهوريين الذين يتذرع بهم نتنياهو، ويضغط من خلالهم على الإدارة الديمقراطية، التي تظهر قدراً من الاحتجاج، وتعاني قدراً أكبر من الحرج. الفلسطينيون ذاهبون بملف القدس إلى مجلس الأمن الدولي وهذه المرة على نحو حاسم، فيما يمكن تأجيل تقديم مشروع قرار إنهاء الاحتلال إلى ما بعد، حتى لا يتركوا للأميركيين أي مبرر لاستخدام الفيتو، وقد ترافق ذلك مع قرار أردني باستدعاء السفير من تل أبيب. إذا كان من غير المحتمل أن تتراجع حكومة نتنياهو فإن من غير المحتمل أن تجرؤ الإدارة الأميركية على إرغام الحكومة الإسرائيلية للعودة إلى طاولة المفاوضات بشروط مناسبة، ما يترتب عنه أن تتحمل واشنطن المسؤولية عن الموقف الذي ستتخذه في الأمم المتحدة، والذي سيشكل مفصلاً هاماً وحاسماً تجاه كل موضوع المفاوضات والبحث عن السلام.