ثمة فرق شاسع بين المشاعر الذاتية، وبين لغة العقل، فالأولى تلقائية، عفوية، لا تخضع لقرار، وإلاّ لما كان إنسان يعاني عندما يتعرض لكوارث تحلّ به أو ببعض من يحب، لكن الموقف الذي ينجم عن سلوك معين، يصدر بأوامر محسوبة من قبل العقل. بلغة المشاعر، ليس غريباً أن تسمع ممن يعانون من أمراض الأورام السرطانية، دعوات، بأن يعاني من يحولون دون العلاج، مما يعاني منه المرضى.
مرض السرطان، وغيره من الأمراض الصعبة في قطاع غزة، يعانون أشدّ المعاناة، بسبب عدم توفر العلاج، وصعوبة الحصول على تحويلات طبية لتلقي العلاج الحقيقي، لا العلاج الذي يخضع فقط لبراءات الذمة، في انتظار الفرج الإلهي.
ما تتعرض له العديد من العواصم وآخرها العاصمة البلجيكية بروكسل، وقبلها باريس، وأنقرة وعواصم أخرى، لا يمكن للعقل السويّ أن يقبله بأي حال من الأحوال، وأعتقد أن الشعب الفلسطيني بكليته، الذي يعاني من الإرهاب الاحتلالي هو من أكثر الشعوب رفضاً للإرهاب، والعنف. التسامح ورفض العنف بالنسبة للشعب الفلسطيني ليس فقط بسبب ما يواجهه من إرهاب وقمع وقتل، ومصادرة أبسط الحقوق وإنما هي واحدة من الصفات الأصيلة، عميقة الجذور في ثقافة وحياة الشعب الفلسطيني. لكن الشعب الفلسطيني يعتب بشدة على حكومات العالم النشط، الذي يشجع أو يتواطأ مع الإرهاب الذي يمارسه الاحتلال بكل قسوته وكل الوقت، نتيجة سياسات واستراتيجيات تبحث عن المصالح الأنانية ولا تأبه لمصالح الآخرين.
الإرهاب محلّ إدانة، مهما كان أصله وفرعه ومسمّياته والطرق التي يتمظهر فيها، ومحل إدانة، بغض النظر عن أية تبريرات أو ذرائع، حتى لو كانت من باب رد الفعل، ورفع الظلم.
الضربات الإرهابية التي أصابت بروكسل، انتشرت أخبارها وتداعياتها لتشمل كل أوروبا الغربية، والولايات المتحدة، لكنها لم تعكس نفسها على الكثير من دول العالم الأمر الذي ينبغي معه فحص الأسباب. في الواقع فإن الإجراءات الأمنية في الدول الغربية، تفوق من حيث الإمكانيات، ومن حيث الفعالية، ما تقوم به الكثير من دول العالم، فإذا كان من يمارس الإرهاب يبحث عن المكان الأسهل والأقل خطورة عليه فإنه كان سيختار دولاً أخرى أقل اهتماماً وأقل من حيث الإمكانيات التي تتعلق بالأمن الداخلي.
هنا يكمن الفارق ويكمن السبب، الذي يترتب على المواطن الغربي أن يبحث عنه، وحتى يكون لهذا المواطن دور في صناعة السياسة العامة لبلده. هنا نسجل، السياسات الأميركية والغربية التي تعمّدت، وساهمت في صناعة الإرهاب كسياسة عامة اتخذت شكل الحروب والغزوات في أماكن مختلفة، وخلق بيئات ودفيئات لولادة وتشجيع العنف والتطرف والإرهاب، هذه هي من تتحمل المسؤولية الأساسية عن انتشار هذا المرض اللعين.
اعتقدت السياسات الأميركية والغربية أن من مصلحتها تشجيع العنف والتطرف والإرهاب لكي تتخذ منه ذريعة، للانطلاق نحو غزوات وحروب لتحقيق مصالحها، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط وفي القلب منها المنطقة العربية، وها هي تكتوي بالنيران التي أشعلتها.
كانت الولايات المتحدة، وسايرتها الدول الغربية، بحاجة إلى عدو، في غياب الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية التي انهارت، وكان من الأسهل عليها أن تعتبر الإرهاب الذي مهدت لولادته، هو العدو الأساسي، الذي ينبغي على كل دول العالم أن تصطف خلف الولايات المتحدة لمحاربته.
ربما نستطيع أن نضيف بالتحليل، وليس بالوقائع، أن الولايات المتحدة صاحبة مصلحة، في أن يصل الإرهاب إلى العديد من دول أوروبا الغربية، لإضعافها، وفي إطار البحث عن المصالح الأنانية وإخضاع حتى الحلفاء.
في هذا السياق على الكل أن ينتبه جيداً لعملية التفجير التي وقعت في شارع الاستقلال وسط مدينة إسطنبول التركية وأدى إلى مقتل ثلاثة إسرائيليين وآخر من جنسية أخرى بالإضافة إلى عدد من الجرحى.
وزير الداخلية التركي إفكان ألا، أعلن أن منفذ العملية ينتمي لتنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، وأنه تتبع الإسرائيليين منذ أن خرجوا من الفندق في حي بيشكتاش، وفجر نفسه عندما خرجوا من المطعم.
«داعش» في كل مكان وليس فقط في الرقة السورية والموصل وليبيا وتونس، فوجودها إن كان مشخصاً ومعروفاً هناك فإن وجودها في العديد من دول العالم بما في ذلك وأساساً أوروبا هو عبارة عن حركة أشباح، ومن شأن التفجير الذي وقع في شارع الاستقلال أن يقلب الكثير من المعادلات، وأن يحدث تغييراً في قواعد اللعبة السياسية.
قد تتجه «داعش» نحو تنشيط عملياتها ضد المصالح الإسرائيلية في كثير من بلدان العالم، إضافة إلى ما تقوم به فعلياً، وفي هذه الحالة فإنها ستضع الكثير من الدول، خصوصاً العربية، وغير العربية في وضعٍ محرجٍ جداً، والأرجح أن مثل هذا التحول، سيوسع من القاعدة الشعبية لـ»داعش» في المنطقة العربية. ولذلك فإن من يدعي رفضه للإرهاب واستعداده لمحاربته، عليه ألا يفرق بين الإرهاب الإسرائيلي وغيره، وهو الأولى بالرفض والمحاربة لأنه إرهاب دولة، ومخالف لكل المواثيق الوضعية والإلهية.