طلال عوكل
مرارة بطعم العلقم، حصاد السنين، والسياسات الخاطئة الموغلة في استنزاف الزمن دون طائل، لا تنفع معها الاستدراكات المتأخرة.
لم يعد فلسطيني واحد، سوى إن كان هناك عائد من الكهوف، يناقش في أن الوضع الفلسطيني يعاني من أزمة شاملة عاصفة، تجتاح القضية، والمشروع الوطني، بل وكل المشاريع، وتجتاح الأرض، والبشر، والحجر، فصائل، ومؤسسات رسمية وغير رسمية، ومواطنين من النخبة حتى الذين يعيشون في فضاءات الصحارى.
قد جفّت العقول، ولم يعد ثمة مجال للإبداع، لا لدى النخب الفكرية والثقافية، ولا لدى النخب السياسية والاقتصادية، فلقد أدخل الفلسطينيون أنفسهم في متاهات، وخيارات جعلت الإسرائيلي هو من يملك زمام المبادرة، حتى في فرض مواقف وسياسات وأجندات الأطراف الفلسطينية الفاعلة وغير الفاعلة.
لا يحتاج أحد إلى انتظار تقارير البنك الدولي، أو مؤسسات الأمم المتحدة، أو أية مؤسسة أوروبية أو غير أوروبية حتى يدرك ما يعانيه قطاع غزة وسكانه.
لا بل ان هذه التقارير التي تستند إلى وقائع وقراءات موضوعية وهي تقارير مسيسة بامتياز، تقصر عن أن تعكس على نحو حقيقي أعماق الأزمة الشاملة.
الأوضاع في الضفة والقدس، لا تختلف كثيراً فالحال واحدة، طالما أن العدو، والمحتل واحد، لكن الأساليب والأشكال واحدة، وكلها تصب في اتجاه مصادرة الحلم الفلسطيني المتواضع، غير أن المؤسسات الدولية، تتحفظ وأيضاً لأسباب سياسية عن أن تقدم عن الضفة والقدس تقارير مماثلة لما تقدمه عن غزة العنوان الأبرز في الأزمة، ليس فقط تراجع الحلم الوطني المتواضع والذي ينطوي صراحة على تقدم المخططات الإسرائيلية، وإنما هو في تراجع اهتمام الناس، وقود السياسة، وبيت الأمل عن القضية الوطنية، لصالح الغرق في القضايا والهموم الخاصة، واليومية.
منطق المواطن البسيط، يقول: دعونا نعش حتى نتمكن من الصمود، في انتظار ما تسفر عنه الأقدار، أو ما تضمن حركة التاريخ تحقيقه لصالح الشعب صاحب الأرض كان وهو الآن، وسيظل غداً.
المواطن فقد الأمل في حكمة قياداته وفصائله الوطنية من أن تكون قادرة على حل أبسط مشاكله وأزماته التي تنال من قدرته على الصمود ومواجهة التحديات المتعاظمة.
جديد الأزمات، ما أفضى إليه مسار طويل من العمل السياسي بعضه متكئ على المقاومة، وبعضه الآخر متكئ على المفاوضة والعمل السياسي، الجديد في هذا الاطار يتصل بالنتائج المترتبة على المال السياسي.
المرحلة التي نعيش على مستوى الإقليم وتتسم بتضارب المصالح، واجتياح الصراعات، وما ينطوي عليه ذلك من مشاريع لتدمير أوطان، وتحقيق أطماع، هذه المرحلة دفعت القضية الفلسطينية إلى الخلف كثيراً، ووضعت أهل القضية بكل أطرافها أمام امتحانات صعبة وخطيرة من باب توظيف المال السياسي.
أنت تريد أن تحصل على المال كي تمول مشروعك التحرري أو التفاوضي، إذاً يترتب عليك أن تدفع الثمن ففي زمن الصراعات الكبرى، والتحولات التي تصاحبها وتنتج عنها، لا شيء يمكن تحقيقه مجاناً.
حركة الجهاد الإسلامي، تعاني من أزمة مالية، لا سبيل للمكابرة بشأنها أو بشأن أسبابها فلقد أصبح معلوماً أن استمرار تدفق الأموال الإيرانية لتمويل مشروع المقاومة يتطلب من الجهاد موقفاً صريحاً إزاء ملف اليمن، فهي إما مع إيران أو مع السعودية، وفي كل الأحوال إما أن تكسب طرفاً أو تخسر الطرفين.
حماس هي الأخرى تعاني أزمة مشابهة، أهم أسبابها المواقف السياسية التي تتخذها إزاء الصراعات الإقليمية الجارية في المنطقة، وينطبق عليها إلى حد كبير ما ينطبق على حركة الجهاد الإسلامي.
السلطة الوطنية الفلسطينية أمام تحد من هذا النوع الخطير إزاء التحرك السياسي الجدي الذي يحضر للقيام به الاتحاد الأوروبي من أجل استئناف المفاوضات.
أكثر من عشرين عاماً والاتحاد الأوروبي، يدفع من صندوق دافعي الضرائب لصالح السلطة بأمل تحقيق السلام، وقد حان الوقت لاستثمار هذه الأموال.
السؤال هل بمقدور السلطة أن تصمد أمام الضغط الأوروبي، الذي يسعى لاستئناف المفاوضات، بشروط لا تلبي حاجة الفلسطينيين خصوصاً وأنهم يعلمون يقيناً أن المفاوضات في حال استئنافها لن تسفر عن تحقيق تسوية مقبولة بقدر ما انها ستخدم المخططات الإسرائيلية؟
مشكلة كبيرة إن قبلت القيادة الفلسطينية العودة للمفاوضات دون الشروط التي وضعتها، ومشكلة إن هي رفضت المساعي الأوروبية التي سترفع سلاح المال في وجه السلطة.
هكذا أوصلت القيادات السياسية الفلسطينية نفسها وشعبها إلى المستوى الذي يضع حبل المال على رقبتها، دون أن يحق لها اختيار أسلوب التعذيب الأقل شدة ووجعاً، خصوصاً وأن المال العربي هو أيضاً مال مشروط بالمواقف الفلسطينية مما يجري على الساحة من صراعات بلغت درجة الحسم في المواقف، والعمل في ضوء هذه المواقف.