طلال عوكل
لم يكد سكان قطاع غزة يصدقون، أن ما يجري هو وقف طويل لإطلاق النار وليس هدنة إنسانية مؤقتة، حتى انفجرت في وجوههم التناقضات الفلسطينية من جديد، لتضيف إلى مخاوفهم من عودة إسرائيل إلى عدوان جديد، مخاوف من عودة الانقسام والصراع، وإن بأشكال وظروف مختلفة.
خلال العدوان الإجرامي الأخير الذي شنته إسرائيل على قطاع غزة، كان العزاء الأهم للغارقين في دمائهم ودمارهم، هو وحدة الشعب الفلسطيني، ووحدة الوفد الفلسطيني والموقف من العدوان ومن المطالب الفلسطينية المحقة.
كان الغارقون في دمائهم يعرفون مدى قدرة عدوهم على المراوغة، ومدى تطرف موقفه من الحقوق الفلسطينية الأساسية وغير الأساسية، السياسية والإنسانية، وكانوا يعرفون، أنه لن يرضخ للمطالب الفلسطينية، ولن يضع حداً لعدوانه إلاّ بعد أن يرتوي من دماء الفلسطينيين ودموعهم، ولكنهم كانوا مطمئنين وسعداء لوحدة وفدهم الوطني الموحد، الذي كان بحد ذاته مؤشراً قوياً على فشل أهداف العدوان الإسرائيلي، الذي أراد تدمير المصالحة وإبقاء حالة الانقسام.
في إسرائيل، ما أن توقفت آلة القتل والدمار عن الدوام، حتى انفجرت التناقضات في صفوف الائتلاف الحكومي، وخارجه، ومثل هذه الحال لا تكون إلا عند الشعور بالفشل، أو الهزيمة.
الجمهور الإسرائيلي، بأغلبيته قال إن الجيش فشل في تحقيق الأهداف، وهو حكم نادر في تاريخ الحروب الإسرائيلية العربية، أما السياسيون فقد ألقى كل طرف بالمسؤولية على الطرف الآخر، وتبادل هؤلاء مع المؤسسة العسكرية والأمنية الاتهامات بالمسؤولية.
حين يكون الجيش وهو البقرة المقدسة، موضع اتهام بالفشل، وبفقدان أو تآكل قدرته على الردع، وعلى حماية المستوطنين، يكون ذلك عنوان أزمة بل كارثة كبرى في إسرائيل والأمر مفهوم تماماً.
تتفرد إسرائيل بين الدول تاريخياً، بأنها دولة صنعها الجيش، ابتداء من العصابات الإرهابية التي خاضت قبل العام 1948، حرب تهجير الفلسطينيين، والتي شكلت النواة الصلبة للجيش، انتهاء بأن قوة هذا الجيش هي الضمانة الوحيدة لبقاء الدولة.
تاريخياً، تنشئ التجمعات البشرية، والسلطات الحاكمة جيوشها للدفاع عن ملكياتها وحدودها الوطنية، أو لشن الحروب على غيرها من الدول تحقيقاً لأطماعها، وتنشئ أدوات ووسائل قمعها الداخلية لحماية سلطاتها من التمردات الداخلية، ولكن لا ينشأ الجيش ثم يقوم بوظيفة إنشاء وتجميع مجتمع، وإقامة دولة كما هي حال إسرائيل.
المصيبة كبيرة هناك داخلياً، والمصيبة كبيرة خارجياً حيث تعاني إسرائيل من عزلة متزايدة، ومن تراكم الإساءة لسمعتها، ووجودها ودورها، حتى يخجل حلفاؤها من الدفاع عنها.
مثل هذا الوضع الذي تعاني منه إسرائيل، يشكل موضوعياً فرصة كبيرة للفلسطينيين، الذين عليهم أن يواصلوا الضغط، وأن يوسعوا دائرة ووسائل الاشتباك السياسي، من أجل تعميق التناقضات الداخلية في إسرائيل، ومن أجل تعميق عزلتها على الصعيد العالمي.
هي فرصة أمام الفلسطينيين، لتطوير هجومهم السياسي، والانتقال من دائرة البحث عن المطالب، إلى دائرة البحث عن الحقوق الوطنية الأساسية دون التخلي عن المطالب التي تتعلق بحياة الناس.
هي فرصة للإمساك بزمام المبادرة، وجعل إسرائيل في دائرة الأزمة، ودائرة ردود الفعل، والضغط على المجتمع الدولي الذي عليه أن يتحمل مسؤولياته ولو من باب حرص هذا المجتمع على مصالح إسرائيل.
خلال الأيام الأولى لتوقف العدوان، كنا نتباهى بوحدتنا الوطنية، وتماسك الحال الفلسطينية مقابل تفكك الوضع الإسرائيلي واستشراء التناقضات في صفوف الإسرائيليين، غير أن هذا الشعور الجميل أخذ يتبدد ليترك المكان للمخاوف من جديد.
لقد استعجلت اللجنة المركزية لحركة فتح، في نبش ملف الخلافات الفلسطينية وكنا نعتقد أن عملية النبش هذه ستتأخر ولو قليلاً، ولو من باب مراعاة ظروف الناس في قطاع غزة، إن لم يكن لأسباب سياسية تتعلق بكيفية التعامل مع العدو الإسرائيلي ومخرجات وتداعيات عدوانه الإجرامي.
لسنا هنا بصدد الخوض، في مسؤوليات الطرفين حماس وفتح، وفي سلوك كل منهما تجاه الآخر، خلال مرحلة العدوان الطويل على قطاع غزة، فقد يكون لدى كل طرف قائمة من التجاوزات التي ارتكبها الطرف الآخر، وكنا نعتقد أن ثمة ما يوجب المراجعة الجادة والحقيقية وذلك في إطار حوار وطني تفرضه الضرورة الموضوعية، لمجابهة تداعيات العدوان، وآثاره، وكان هذا الاعتقاد الخاطئ يقود إلى رغبة ذاتية في أن تكون أهداف العدوان، سبباً في اتخاذ المزيد من الخطوات على طريق المصالحة، واستعادة الوحدة. الملاومة والاتهامات في هذه الحالة لا تنفع أحداً، إذ انها لا تخلق معطيات سياسية غير المعطيات الموجودة على أرض الواقع، ومن خلال التفاعل معها سلباً أو إيجابياً يمكن تغييرها أو تعظيمها.
يخشى المواطن الفلسطيني، من أن تعيدنا هذه الاتهامات المتبادلة إلى المربع الأول، وإلى تأكيد حالة الانقسام والصراع، بعد أن استبشر خيراً بتوقيع اتفاقية الشاطئ وتشكيل حكومة الوفاق.
المواطن الفلسطيني، خصوصاً في قطاع غزة، لا ينتظر الإغاثات الإنسانية من طعام وشراب ودواء، فهو لم يعط بالاً لكل هذا حين كان يواجه الموت والدمار.
لم نسمع عن مواطن استشهد أو قضى نحبه بسبب الجوع أو العطش، وبعض المواطنين عادوا إلى حياتهم "الطبيعية"، حتى بعد أن مكثوا تحت الأنقاض أياماً دون طعام أو ماء حتى جاءتهم فرق الإنقاذ.
المواطنون في قطاع غزة، انتظروا مجيء حكومة الوفاق الوطني لكي تباشر مسؤولياتها الوطنية، وتحمل أعباء مداواة جراحهم، وإعادة بناء حياتهم، ومعالجة الأزمات المتفاقمة التي يعانون منها. انتظر الناس، عودة الرئيس ترفرف فوقه، أعلام الوحدة، ويعتليها علم فلسطين، وانتظروا المزيد من الخطوات الملموسة والمبشرة، بطي صفحة الانقسام، وعودة الوحدة.
نعلم أن الأمر ليس على هذا القدر من البساطة والسهولة، ولكننا نعلم أن الإرادة الوطنية، يمكن لها أن تصنع المعجزات، حين تتوفر لدى كل الفاعلين السياسيين في بلادنا. هذا ليس زمن نكء الجراح، وإنما زمن مداواتها.