طلال عوكل
فيما يكثر الحديث والشرح عن الأبعاد السياسية والاقتصادية والنفسية للانقسام الفلسطيني الذي دخل عامه التاسع، وعن التداعيات الخطيرة، لهذا الانقسام على المشروع الوطني، يجب تنبيه القوى الحية في المجتمع الفلسطيني إلى المخاطر التي تنطوي على أبعاد سلبية حين يتعلق الأمر بالهُويّة الوطنية للشعب الفلسطيني.
في الأصل، قام المشروع الصهيوني على فكرة رئيسة تفترض أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، تفترض الفكرة المشروع أن الديانة اليهودية تشكل عاملاً مقرراً لهُويّة تجمعات تعتنقها رغم توزعها الجغرافي والاجتماعي في عشرات بلدان العالم.
وإذا كانت الهُويّة الوطنية، محصّلة تفاعل بين عوامل التاريخ والمجتمع والأرض، فإن الحركة الصهيونية، تدرك أنها لن تنجح في بلورة هُويّة قوية دون إلغاء هُويّة أخرى افترضت عدم وجودها في الأساس، على الأرض التي ينبغي أن تتشكل عليها الهوية القومية لما يسمى الشعب اليهودي.
الصراع على الأرض الفلسطينية منذ البداية اتخذ طابع الإلغاء والإحلال، وقد راهنت إسرائيل بعد قيامها العام 1948، مدعومة بالقوى الاستعمارية التي خلقتها ودعمتها، راهنت على تبديد الشعب الفلسطيني وإلغاء هويته، من خلال عملية استيعاب تحتاج الى امكانيات، وسنوات طويلة، تؤدي إلى اذابة وادماج الفلسطينيين في المجتمعات العربية أساساً وفي المهاجر.
الفرضية تقوم على أن الهوية الفلسطينية بكل خصائصها تتماهى كلياً مع الهويات القومية العربية، الأمر الذي سيسهل عملية الادماج والتذويب لذلك سعت إسرائيل وخالقوها وداعموها إلى تنفيذ مخططات لتوزيع وتوطين الفلسطينيين وكان أهمها ما يعرف بمشروع سيناء للتوطين في أواسط خمسينيات القرن الماضي.
على بساطة وعي الفلسطينيين، وفطرية تمسكهم بهويتهم، وبحقهم في العودة، نجحوا في إفشال تلك المخططات، التي ظلت تطل برأسها بين وقت وآخر، وهي لا تزال قائمة بمعنى أو بآخر تجاه بعض التجمعات الفلسطينية الأساسية.
حتى العام 1967، حيث احتلت إسرائيل ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية كانت اوضاع التجمعات الفلسطينية الاساسية، قد خضعت لظروف وبيئات متباينة فقطاع غزة كان مصري الهوى، لأنه خضع لإدارة الحكم العسكري المصري، وخضعت الضفة للإدارة الأردنية والفلسطينيون في أراضي 1948، خضعوا لمحاولة الأسرلة، وأما اللاجئون الفلسطينيون في الأردن وهم التجمع الرابع الكبير فقد أصبحوا جزءاً من المجتمع الأردني.
تجمعات مختلفة، متباينة الظروف، يعني مع مرور السنين بلورة هويات متباينة، خصوصاً وأن عملية البلورة هذه ليست تلقائية وإنما تخضع للتخطيط وفعل الفاعلين المؤثرين.
لم تكتف إسرائيل بذلك بل تنوعت مخططاتها من سرقة الأرض إلى سرقة التاريخ وتزويره، إلى سرقة المعالم الأثرية الدالة عليه، وسرقة التراث الفلسطيني الشعبي من الثوب الفلسطيني المطرز إلى الأكلات الشعبية وما بينهما.
ان البحث عن الهيكل المزعوم، والحفريات اسفل وحول المسجد الأقصى، وتغيير اسم وطريقة التعامل مع حائط البراق على أنه حائظ المبكى وكذا الادعاءات الاسرائيلية ازاء الحرم الابراهيمي، وقبر راحيل، وقبر النبي يوسف، كلها تندرج في سياق الغاء هوية وإحلال أخرى (يهودية) وهو ما فضح أمره المؤرخون الصهاينة الجدد، الذين فندوا المزاعم التوراتية الإسرائيلية.
بعد احتلال إسرائيل لكل فلسطين التاريخية العام 1967، توفر للفلسطينيين عاملان أساسيان، انتبهت إليهما الدوائر الإسرائيلية في أوقات لاحقة، العامل الأول ان احتلالها لكل فلسطين أدى، الى عودة التواصل السياسي والاجتماعي والثقافي، بين التجمعات الفلسطينية الثلاثة القائمة على الأرض الفلسطينية (غزة والضفة وأراضي 48)، وكانت للانتفاضة الشعبية الكبرى التي اندلعت العام 1987، دور بارز في تعميق هذا التواصل، وتوسيعه وتنويع أشكاله، بما يشكل مساهمة كبيرة في إعادة بلورة وتعزيز الهوية الفلسطينية.
العامل الثاني هو اندلاع الثورة الفلسطينية المسلحة، وتولي حركة فتح والفصائل المسلحة، قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، التي تطور دورها وارتقت مكانتها، فأصبحت الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني وعنوان هويته الوطنية.
قبل هذا التطور، كانت منظمة التحرير التي ترأسها المرحوم احمد الشقيري قد احتسبت على النظام العربي، حيث إن تأسيسها جاء بقرار من القمة العربية، وبدعم من القائد القومي الكبير الراحل جمال عبد الناصر، ولذلك وانها ان كانت البذرة الأساسية، الا انها لم تكن لتحقق ما حققته المنظمة بعد أن أصبحت بقيادة الفصائل الثورية.
الصراع على الهُوية قائم حتى اللحظة، وهو سر إصرار إسرائيل على الاعتراف بها كدولة يهودية، وهو أيضاً سر الإصرار الفلسطيني على بلورة الهوية الفلسطينية واستكمال مقوماتها من خلال الدولة على الأرض الفلسطينية.
الانقسام الفلسطيني ربما لا يؤدي إلى تبديد الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني، فهذه راسخة برسوخ أهلها على أرضهم، وبإصرار كل فلسطيني على انتمائه حتى لو حمل مئة جنسية وجواز سفر، لكن الانقسام يهدد بتبهيت هذه الهوية وبتأخير تبلورها الكامل، وذلك بالاصرار على خلق ظروف متباينة، اقتصادية، وسياسية، وثقافية ونفسية واجتماعية، تفرز هويات متباينة أو تشوه الهوية الوطنية.
لا يمكن أن تتبلور الهوية الوطنية، على أساس الدين، بما أن ذلك يؤسس لسلوكيات وأخلاقيات ومفاهيم وثقافات وتعارضات اجتماعية مختلفة، فلقد عاش الشعب الفلسطيني بكل طوائفه في مجتمع متسامح، متكافل لا فرق فيه بين مسلم ومسيحي ويهودي، وهو ما تأسست عليه الهوية الوطنية التي اجتهدت منظمة التحرير الفلسطينية في بلورتها، وتكريسها ونجحت في فرضها على المجتمع الدولي.
لم تكن الدبكة، والسامر، والميجنا، ودلعونا وجفرا، ولم يكن الزي الفلسطيني الشعبي، ولا طقوس التقاليد الاجتماعية، لم يكن كل ذلك، قائماً على اساس الدين، إنه نتاج التفاعل الكيميائي بين كل العناصر التي تشكل الهوية وهي الأرض والشعب والتاريخ.