طلال عوكل
تصويت مجلس العموم البريطاني بأغلبية كبيرة على فكرة الاعتراف بدولة فلسطين ينطوي على مؤشرات وابعاد عميقة ومهمة، وان كان الأمر من صلاحيات الحكومة.
حتى لو كان التصويت اخلاقياً، فإنه في هذه الحالة يعكس تطوراً في وعي الرأي العام البريطاني، في الدولة التي حملت عبء ومسؤولية دعم المشروع الصهيوني على أرض فلسطين.
في السياسة ليس هناك ما يمكن اعتباره صحوة ضمير، فالضمير والاخلاق والقيم مرهونة دائماً بالمصالح، فإن كانت مصلحة بريطانيا كدولة استعمارية قد اقتضت، نيابة عن الدول الاستعمارية الكبرى في بداية القرن الماضي، انشاء دولة لليهود في فلسطين لخدمة الاستراتيجيات الاستعمارية، ولمنع قيام دولة عربية قومية، فإن بريطانيا وغيرها من الدول الاستعمارية قد اختلفت مصالحها وسياساتها مع اختلاف الزمن.
قبل بريطانيا كانت السويد هي الرائدة في الاعلان عن نيتها الاعتراف بدولة فلسطين والارجح ان مزاد الاعتراف بدولة فلسطين في اوروبا قد بدأ، وان اقتفاء اثر السويد من قبل دول اوروبية اخرى هو مسألة وقت.
ان تبدأ الاعترافات من قبل الدول الرأسمالية، والاستعمارية القديمة من اوروبا أمر مهم للغاية، فأوروبا هي وطن الديمقراطية والليبرالية، وافكار وقيم الحرية، وهي قاطرة التحول الاجتماعي والاقتصادي الانساني، نحو التطور والتقدم، والتي توقف ملايين الضحايا على مذبح التحول، الذي يشهده العالم الحر.
المحاولات الاسرائيلية من قبل اليمين كما من قبل مدعي اليسار بذلوا جهوداً جبارة من اجل التأثير على التصويت في مجلس العموم البريطاني وقبلها كانت اسرائيل الرسمية قد اعربت عن غضبها بعد اعلان الحكومة السويدية، ولكن كل ذلك، انتهى الى الفشل، ما يعني تراجع قدرة اسرائيل واللوبيهات اليهودية على التأثير في التحولات التي تجرى على مستوى الرأي العام الاوروبي.
وفي اوروبا وليس صدفة، تتسع دائرة المقاطعة للبضائع والشركات ذات الصلة بالاستيطان والمستوطنات، وقد انتقلت الفكرة الى الرأي العام الاميركي ما يجعل قضية المقاطعة ككرة الثلج، طالما ان اسرائيل تواصل مخططاتها الاستيطانية، التي اصبحت ابرز عناوين السياسة الاسرائيلية الدالة على العنصرية، والتوسع والعدوانية.
في هذا الزمان، لم تعد لغة القهر والحرب والقتل، والتدمير صالحة لتحقيق المصالح على طول الوقت، فمثل هذه اللغة تولد نقيضها، وتحفز على نشر ما يسميه الغرب الرأسمالي بالارهاب، الذي يتطلب هزيمته اقامة تحالفات، دولية واسعة.
اسرائيل في الحقيقة تنتمي بقوة لتيار الارهاب المنظم، ارهاب الدولة، ارهاب يغذيه الشعور بالقوة الظالمة، المؤسس على ثقافة الخوف الوجودي الابدي، وعلى التميز العرقي، والفوقية التي تولد العزلة، تجاه الاخرين.
أخيراً، يدلي جون كيري، وزير الخارجية الاميركي بتصريح اعتبره ياسر عبد ربه جريئاً، حين ربط بين ضرورة انهاء الاحتلال الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية المحتلة، وبين الحرب على الارهاب، التي تقودها الولايات المتحدة ضد داعش واخواتها.
لا نعتقد ان تصريح كيري نابع من موقف شخصي، ازاء فشل محاولاته دفع العملية السلمية، والاهانات التي تلقاها شخصياً، وتلقتها ادارته من قبل اسرائيل الرسمية والعديد من المسؤولين، فهو أي كيري بات يدرك ان نجاح التحالف الدولي في القضاء على الارهاب يتطلب في الجوهر مشاركة ومساندة العرب، والا كانت الحرب ضد الارهاب ذات طابع صليبي.
اذا كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها، يخشون من ان ينتقل الارهاب الى بلدانهم عاجلاً ام آجلاً، فإن عليهم ان يخوضوا حرباً دفاعية، خارج دولهم، اي ان هذه الحرب ليست حرصاً على الأمة العربية وشعوب المنطقة، وانما هي حرب للدفاع عن مصالح الدول التي تخوض الحرب، بما في ذلك واساساً مصالحها الوطنية الداخلية.
الاحتلال الاسرائيلي في هذه الحالة يشكل عقبة كبيرة، امام نجاح الحرب على الارهاب، ولذلك، وانطلاقاً من هذا الادراك، يتحدث جون كيري عن الربط، ويدعو الى استئناف المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية.
غير أن تصريح كيري ليس كافياً، لطمأنة الفلسطينيين، ونفترض انه مجرد كشاف، وتمهيد، له ما بعده. يدرك وزير الخارجية الاميركي ان الفلسطينيين والعرب يئسوا من امكانية تحقيق تسوية من خلال المفاوضات، ان كانت مباشرة او غير مباشرة، وذلك بسبب عمق واستمرار السياسات الاسرائيلية.
والقصد أن الفلسطينيين لم يعد لديهم ما يقدمونه لتسهيل العودة الى طاولة المفاوضات، وبالتالي فإن استئنافها من جديد يتطلب من الولايات المتحدة تحديداً، ان تتخذ اجراءات عملية لارغام اسرائيل على وقف كل سياساتها الاحتلالية والاستيطانية، بما يوفر بيئة مناسبة للمفاوضات، ولحملها على الاعتراف بقرارات الامم المتحدة كمرجعية لهذه المفاوضات.
تصريحات كيري غير كافية لتوفير الضمانات المطلوبة من قبل الفلسطينيين بأنهم لن يعودوا الى مفاوضات عبثية، تتمكن اسرائيل خلالها من مراكمة المزيد من الوقائع التي تطيح بالحقوق الفلسطينية وما لم تتقدم الولايات المتحدة بخطوات اخرى جريئة، فإن دعوتها للمفاوضات، ستحسب على سياسة قطع الطريق على توجه القيادة الفلسطينية للامم المتحدة.
كفلسطينيين ليس علينا ان نستعجل الامور، وان نحرق المراحل، فما يجري من تحولات على صعيد الرأي العام العالمي، وعلى صعيد المنطقة والاقليم يشير الى ان اسرائيل تندفع، وتدفعها طبيعتها العنصرية والارهابية نحو المزيد من العزلة، ونحو ان تتحول الى عبء على من انشؤوها، وامدوها بالدعم والقوة، ومن يقومون بحراستها وحمايتها.
ان كانت هذه هي طبيعة دولة الاحتلال، فإن السلام، والديمقراطية والكفاح الشعبي والسلمي، هو الذي يقهر آلة الدمار والحرب، في ظل الظروف والمعطيات الراهنة.