طلال عوكل
المؤتمر الدولي الذي احتضنته القاهرة، يوم أمس الأحد، ينطوي على أبعاد مهمة تتجاوز البعد الاقتصادي والإنساني الذي يتصل بإعادة إعمار قطاع غزة، الذي دمرته آلة الحرب الإسرائيلية الأخيرة.
أكثر من مئة دولة، ومؤسسة، دولية وإقليمية، التقت في القاهرة، بعد تنسيق مصري، مع دولة النرويج، التي تنازلت عن مبادرتها لعقده في عاصمتها التي حملت ولا تزال تحمل اسم الاتفاق التاريخي، الذي دشن مرحلة جديدة في الكفاح الوطني الفلسطيني، الذي يصارع من أجل انتزاع حقوق الشعب الفلسطيني.
القاهرة تفرض نفسها مرة أخرى على عواصم العالم، باعتبارها عاصمة الدولة العربية الأكبر والأقوى، وذات القدرة على تأكيد دورها الإقليمي الفاعل، وسط محاولات أطراف ودول عديدة حاولت لسنوات تجاوز الاستحقاق الجيو سياسي التاريخي الذي تمثله مصر.
ها هي مصر تعود بقوة إلى المشهد العربي والإقليمي والدولي، وتستعيد دورها المركزي كحاضنة للقضية الفلسطينية والحصن المنيع في الدفاع عن حقوق وتطلعات الأمة العربية.
تتقدم مصر بدور ضابط الإيقاع للصراع الجاري على امتداد المنطقة بما في ذلك الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي، ولتنتزع مرة أخرى، دورها الموعود، رغم تحفظات الولايات المتحدة والعديد من الدول الغربية، التي لم يرق لها المسار السياسي الذي اختاره الشعب المصري.
المجتمعون في القاهرة، لم يأتوا إليها، في مؤتمر كهذا لكي يكفروا عن شعورهم بالتقصير أو الذنب الذي يرتكبونه من خلال التواطؤ أو التجاهل أو التساهل، أو الدعم الذي يجعل إسرائيل تكرر عدواناتها الوحشية على الشعب الفلسطيني، وتتنكر لحقوقه، ولمتطلبات تحقيق السلام.
ولم يأت هؤلاء بدوافع إنسانية وشفقة على الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لأبشع أنواع الاحتلال، وأكثرها إجراماً، وأشدها غطرسة وعنصرية، واستهتاراً بالقوانين الدولية، فمن يوجعه ضميره لما يعاني الشعب الفلسطيني، عليه أن لا يكتفي بتقديم الأموال والمساعدات الإغاثية.
إلى متى يستمر المجتمع الدولي في غسل الأوساخ الإسرائيلية وهل يمكن في كل مرة، تقوم بها آلة التدمير الإسرائيلية، أن يعودوا لإعادة البناء، التي تكلف شعوبهم أموالاً وإمكانيات، من حقهم أن يتمتعوا بها؟
كان في قطاع غزة مطار، وكان الميناء البحري قيد الإنشاء، والسلطة بدأت بتأسيس البنى التحتية، لكن إسرائيل دمرت كل شيء، وحرقت أموالاً باهظة، وكل ذلك بسبب عجز المجتمع الدولي عن وقف السياسات الإجرامية لدولة الاحتلال.
الولايات المتحدة ترتكب جرماً تاريخياً لا يقل خطورة عن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، لأنها لا تكتفي بمنع تعرض إسرائيل للعقاب، ولكن أيضاً لأنها من يحمي هذه الدولة الغاشمة وهي من يمدها بأسباب وأدوات التدمير، ويغذي لديها عنجهية تجاهل إرادة المجتمع الدولي.
من الواضح أنه ليس لدى المجتمع الدولي ما يفعله وهو يقرر دفع تكاليف العدوان الإسرائيلي تحت عنوان إعادة إعمار قطاع غزة، سوى أن يطالب بتثبيت وقف إطلاق النار على نحو دائم، أي أن يتوقف الطرف الفلسطيني عن النضال من أجل حقوقه الوطنية، حتى لا يتعرض لبطش العدوان الإسرائيلي.
يعلم المجتمع الدولي أنه لا يمكن أن يتوقف الكفاح الفلسطيني، ولا أن يتوقف العدوان الإسرائيلي طالما لم يتحقق السلام الذي يلبي الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني.
إسرائيل لا تشن العدوانات على الشعب الفلسطيني، بذريعة وجود مقاومة مسلحة، وإنما هي مستعدة لمواصلة عدوانها على الأرض والحقوق وعلى المواطن الفلسطيني، انطلاقاً من سياساتها التوسعية.
والسؤال هل يمكن أن يتوقف العدوان الإسرائيلي الذي يتخذ أشكالاً أشد خطورة من العمل المسلح؟
هل توقف إسرائيل الاستيطان، ومصادرة الأرض، وهل توقف، عملية تهويد القدس، وتهديد المقدسات الإسلامية والمسيحية، وهل توقف قهرها للشعب الفلسطيني، وتخريب مقومات حياته اليومية؟ ألا يتوقع الذين اجتمعوا في القاهرة يوم أمس، أن إسرائيل مستعدة لارتكاب المزيد من المجازر، في حال، واصل الفلسطينيون نضالهم السياسي والدبلوماسي من خلال الأمم المتحدة؟ يطمح الذين اجتمعوا في القاهرة وخصوصاً الولايات المتحدة، إلى الالتفاف على السياسة الفلسطينية التي تتجه نحو الأمم المتحدة، ولقطع الطريق على المشروع الفلسطيني إلى مجلس الأمن الدولي.
ممثلو الإدارة الأميركية يطرحون مرة أخرى، العودة إلى البديل الفاشل والمجرّب وهو استئناف المفاوضات الثنائية التي توقفت في نيسان الماضي بسبب إسرائيل، المزيد من محاولات شراء الوقت، حتى تتمكن إسرائيل من الإجهاز واقعياً على الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، ومصادرة ممكنات تحقيق رؤية الدولتين.
الأصل في الجهد الذي ينبغي أن يقوم به المجتمع الدولي، هو أن يتحمل الطرف الذي دمر قطاع غزة، وارتكب المزيد من المجازر وجرائم الحرب، أن يتحمل هذا الطرف وهو إسرائيل المسؤولية المباشرة وحده عما اقترفت أيدي، مؤسساته المجرمة.
من الواضح أنه ما لم تتغرم إسرائيل تكاليف إعادة بناء ما دمرته آلتها العسكرية، فإنها لن تكف عن معاودة العدوان، وتدمير ما قد يقوم المجتمع الدولي ببنائه في قطاع غزة، وفي الضفة، والقدس.
فليجرب المجتمع الدولي مرة واحدة، إخضاع إسرائيل للمحاسبة والعقاب وتكبد تكاليف ما تقوم به، وحينها سيدرك هؤلاء أن إسرائيل ستفكر ألف مرة قبل أن تقرر ارتكاب عدوان جديد.
ولكن في غياب ذلك، في غياب عملية سلام حقيقية ومثمرة، فإن الذين اجتمعوا في القاهرة أمس، وقبل خمس سنوات في شرم الشيخ، سيجتمعون مرات أخرى.