طلال عوكل
هرمنا في العمل الكتابي والإعلامي المكرس للقضية الفلسطينية وهموم الحركة الوطنية، والصراع، وهموم الشعب، والتأكيد على عدالة الحلم وحتمية تحقيقه، ولكن صناع القرار والحدث، لا يزالون شباباً يتمتعون بكل قوة التجاهل، والإصرار على احتكار الحقيقة، وميزان الحكم على الخطأ والصواب، وهم دائماً على صواب!
وهرمنا في العمل السياسي، الأكاديمي والعملي، حتى حسبنا أنفسنا من الخبراء الذين لا يشق لهم غبار، وتعبنا لكثرة تقديم النصائح والأفكار والتمسك بالموضوعية، ومعايير الوطنية المخلصة، ولكن صناع القرار والحدث، مصممون على إعادة تعليمنا السياسة من ألف بائها، وليقدموا لنا وللشعب، ومفكريه ومثقفيه دروساً، تحتاج إلى مدارس جديدة وإبداعية لاستيعابها، وتفهمها.
هرمنا في الكتابة والسياسة لكننا سنظل على عهدنا، تقليديين، ولكن ليس من باب رفض التعلم، أو جرياً وراء المثل الشعبي الذي يقول إن التعليم في الكبر كالنقش في الحجر، فإذا كان الأمر كذلك، فإن الكثير من فصائل العمل السياسي وقادتها، قد بلغت وبلغوا سن التقاعد. ليس للنضال من أجل قضية وطنية تحررية، حدود للتقاعد، كما أنه ليس بالإمكان تحديد توقيتات زمنية محددة لتحقيق إنجازات أو لبلوغ الأهداف، إزاء صراع من النوع الذي يخوضه الشعب الفلسطيني.
إن كان من غير الضروري أو الممكن في هذا المقام المرور على كل الأخطاء التي وقعت فيها الحركة الوطنية الفلسطينية فإننا نكتفي بالإشارة إلى خطأين أو خطيئتين من دون أن نتجاهل أخطاء وخطايا أخرى. الأولى تتصل بمجريات الأحداث التي أدت إلى الانقسام ورافقته، ولا يزال فعلها سارياً حتى اللحظة، ونقصد تقديم التناقض الثانوي، الداخلي على التناقض الرئيسي مع الاحتلال، ما أدى ويؤدي إلى استنزاف جزء من طاقة الشعب والحركة الوطنية في غير وجهتها الموضوعية الصحيحة والتي تستقيم مع قوانين ومعادلات التحرر الوطني. وبضمن ذلك تقديم الرؤى والبرامج والمصالح الفصائلية الفئوية على المصالح الوطنية العامة، وبرامج الإجماع الوطني، الأمر الذي يكرس العصبوية والقبلية السياسية، ويستنزف الطاقات في تنافسات وصراعات فصائلية هي في كل الأحوال على حساب الوطني العام، وحتى على حساب الفصائلي الخاص.
أما الثانية فهي الإصرار على العناد، وتغييب العقل السياسي والحكمة في ممارسة السياسة وقبل ذلك في فهم قوانينها ومدركاتها، حيث من غير الممكن، أن يتقرر الصلاح والإصلاح بوجود رأسين، أو قوتين متعادلتين، وكل منهما يملك القدرة على رفع الفيتو في وجه الآخر. حتى في الأسرة، أو في المؤسسة، من غير المقبول وجود رُبانين أو رأسين، فإن وقع ذلك، فسيؤدي إلى الطلاق والتفسخ وإهدار الموارد والإنجاز. إن واحداً من أبرز عوامل تعطيل المصالحة، هو الصراع المتكافئ على السلطة، والإدارة، والقرار، ما سيبقي الحالة الفلسطينية رهينة لازدواجية السلطة وهو أمر غير قابل للاستدامة، إذ إن الحياة أو الانتخابات، ستعطي طرفاً حق الأرجحية على الآخر، ولكن السؤال، هو لماذا ننتظر أن ندفع أثمانا غالية حتى يسلم طرف بأرجحية الآخر؟
هل تدرك القيادات الفصائلية العنيدة، أنها لا تستطيع أن تصمد بدون أضرار قد تكون بليغة أمام عاصفة هوجاء؟ حين هجمت علينا "هدى"، هبت عواصف رملية، أجبرت السائرين على أقدامهم أن يحنوا رقابهم، حماية لعيونهم من الأتربة المتطايرة، فلماذا يرفض البعض أن يحني رقبته، حماية لبرامج وطنية، وأهداف عامة، أو حتى لحماية برامجه ورؤاه وأهدافه ومصالحه الفصائلية؟
حركة حماس في عين العاصفة، وكلنا في دوامة تعصف بالمشروع الوطني والحقوق الوطنية، الأمر الذي يقتضي البحث المعمق واتخاذ القرار السليم، والقرار السليم سليم في وقته، وهو غير سليم ومدفوع الثمن في غير زمانه.
خلال الأشهر المنصرمة دأب نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الدكتور المحترم والهادئ موسى أبو مرزوق، على جملة مكثفة من اللقاءات المباشرة مع الفصائل ونشطاء السياسة والمجتمع، بعضها مفتوح أمام وسائل الإعلام وبعضها في غرف مغلقة. في بعض هذه اللقاءات يكون الهدف اطلاع الحضور على المستجدات السياسية، والداخلية، وشرح رؤية "حماس" لها، وفي بعضها الآخر، سعياً وراء الوقوف على اقتراحات ونصائح تساعد في تجاوز واقع الحال المأزوم الذي تعاني منه المصالحة، وما أكثر الأزمات التي تعاني منها القضية ويعاني منها الناس.
الأحاديث صريحة وجريئة، والنصائح تتمتع في أغلب الأحيان بالبراءة الوطنية والموضوعية، وتنضح بالشكوى، إلى أن بلغت عند بعض القيادات السياسية المعروفة لأن يطالب صناع القرار والأحداث بأن يقدموا هموم الناس على الهموم الوطنية والسياسية، بعد أن تفاقمت هذه الهموم إلى الحد الذي أدى إلى فقد ثقة الجمهور بقياداته والكفر بفصائله.
أحاديث الدكتور أبو مرزوق إيجابية، وهو لا يتورع عن إدانة معظم الانتهاكات التي تقع وتنسب إلى حركة حماس، سواء بمسؤولية مباشرة أو غير مباشرة على خلفية سيطرتها الأمنية على القطاع. غير أننا نلاحظ بأنه بعد كل لقاء مهم، يقع حدث مدان ومرفوض، وكأن هناك من يتعمد الإفساد، وإعادة تذكير الناس بانقطاع الصلة بين ما يتحدثون به في الغرف المغلقة وأمام وسائل الإعلام وبين الواقع والممارسة العملية.
المحاولات من قبل ابو مرزوق وفريقه لا تزال مستمرة، لتحسين الأجواء والبحث عن مخارج للأزمات، ولكن هذا البحث قد يستمر طويلاً بدون نتائج طالما أنه يفتقر إلى مبادرات عملية. من نوع هذه المبادرات، اقترحنا ونصر على أن القراءة الموضوعية للتطورات الخارجية والداخلية تستدعي من حركة حماس، أن تبادر للتخلي كلياً عن موضوع المعابر، لجهة تسليمها للسلطة. إن وقع ذلك فإنه يساعد في معالجة ملفين كبيرين: ملف حرية الحركة والسفر، وفتح معبر رفح، وهو ملف صعب وشائك ويضرب الكثير من حقوق الناس، بالإضافة إلى ملف إعادة الإعمار الذي يتعلق بعشرات آلاف الأسر التي تضررت بيوتها ومصالحها، خلال العدوانات الثلاثة السابقة على قطاع غزة. ثمة نصائح أخرى جرى تقديمها، لا سبيل لذكرها الآن، ولكن الواقع لا يزال عنيداً.