طلال عوكل
طويلة قائمة القضايا والاهتمامات، والأزمات التي يغرق في معاناتها المواطن الفلسطيني في قطاع غزة، وكان يعتقد أن لا مجال للإضافة عليها. بعد القضية الوطنية التي يفترض أنها تتصدر قائمة القضايا، لكنها على ما يبدو تتراجع إلى ذيلها، بفعل فاعل، يعرف الجميع عن أزمة البطالة، والفقر، وتهميش الشباب والنساء، ويعرف الجميع ما يعانيه الناس منذ ما يقرب من ثماني سنوات، من حصار زاده تشديداً إغلاق طويل ودون أفق محدد لمعبر رفح، حتى بات الناس يشعرون فعلاً أنهم في سجن كبير، وأنهم يستحقون أن يحمل لهم الزوار العيش والحلاوة.
ويعرف الجميع الآثار المدمرة التي خلفتها ثلاثة اعتداءات كبيرة شنتها إسرائيل خلال السنوات الست الأخيرة، ودون توقف العدوان منذ العام 2006، دمار كبير، وتشريد لعشرات آلاف الأسر، وبنية تحتية مدمرة، لا تحتمل سقوط أمطار بمعدلات متوسطة ستؤدي إلى غرق العديد من المناطق والبيوت السكنية.
جدول الطاقة الكهربية أفضل من ذي قبل بفارق بسيط، لكنه يعكس أزمة مستمرة إذا أمكن تحسينها قليلاً، فإن الأمر يستحق أن تقام له الأفراح والليالي الملاح. هجرة ومغامرة، من لم تسعفه أيام ما قبل إغلاق معبر رفح من ركوبها، يهاجر نفسياً وذهنياً، وينتظر لحظة الفرح.
مصالحة متعطلة يتخللها صراعات، واشتباكات لم تعد متوقفة على التصريحات الكلامية وبلغة تتجاوز حدود آداب التعامل بين أبناء الشعب الواحد، ما يخلق حالة من الاحباط واليأس وفقدان الأمل والاستسلام للقدرية.
كل هذا وأكثر منه، يعطل عملية إعادة الإعمار، بسبب آلياتها المعقدة والمفخخة، التي تتحكم بها إسرائيل، فلا إعادة إعمار للبيوت والبنى التحتية، ولا عملية إعادة إعمار للنفوس، والثقافة والسياسة والعلاقات الوطنية. القائمة لم تغلق بعد، فثمة معانيات وهموم أخرى اجتماعية واقتصادية ومعيشية أخرى، لا مجال للحديث عنها، تطرح على السياسيين سؤالاً بسيطاً، لكنه ينطوي على تبعات وتداعيات خطيرة.
ماذا عن دعوات السياسيين للناس بأن يستمروا في الصمود على هذه الأرض وإبداء المزيد من الاستعداد للتضحية في سبيلها، فيما هم يساهمون في تقويض كل وأبسط عوامل الصمود وكيف يمكن صياغة مفهوم الوطنية في ضوء ذلك.
لا بد أن القارئ قد ملّ من سماع معزوفة الحديث عن قائمة الأزمات التي نكتفي بالمرور عليها فقط من خلال العناوين، ولكن ثمة ما يمكن إضافته لتحقيق التشويق.
قطاع غزة يعاني فوق كل ذلك، من ما يشبه الظاهرة، التي تزداد وضوحاً في طبيعتها، عبر المزيد من الأحداث الدرامية السخيفة، إذا استمر الحال على ما هو عليه، والأرجح أنه سيستمر لأشهر قادمة إن لم يكن لفترة تتجاوز الأشهر.
قبل الحرب الأخيرة المدمرة على قطاع غزة، كان المركز الثقافي الفرنسي في مدينة غزة، قد تعرض لتفجيرين، جاءا بعد حفلة أقامها المركز أثارت حفيظة القوى أو الجماعات، الظلامية، وسجلت القضية ضد مجهول، حتى لو كانت هناك تحقيقات ونتائج لم يعلم عنها الجمهور.
وبعد الحرب، اتخذ الخلاف حول المصالحة، وحكومة الوفاق الوطني، طابع الانفجار حين تعرضت منازل خمسة عشر فتحاوياً لتفجيرات، انتهت بمنع إحياء الذكرى العاشرة لرحيل الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، حتى في قاعة مغلقة.
أما أخيراً وليس آخراً، فقد تفاقم استخدام اسم داعش، التي لم يتبلور وجودها بعد، وهي ليست في غزة أكثر من أفراد ويتزايد عددهم، على أن صدر باسمها بيان تكفير وتهديد، ضمن قائمة أولية شملت ثمانية عشر شاباً وشابة من نشطاء الإنترنت.
بعض هؤلاء خارج الوطن، ولكنني حين التقيت عدداً منهم، وأعرف عدداً آخر، لم ألاحظ فيهم شكلاً ومضموناً، ما يضفي عليهم الصفات التي أطلقها عليهم البيان.
البيان رغم محدوديته، ومحدودية آثاره، إلاّ أنه ترك حالة من الرعب لدى الكثيرين، حيث أخذ الناس يتداولونه في البيوت وفي الشارع، ما يؤدي إلى نتائج سلبية خطيرة على العلاقات الاجتماعية حيث سيفرض الأهل قيوداً لا معنى لها على بناتهم وأبنائهم.
البيان سبقه بيان آخر تم توزيعه باليد في الجامعات يحثّ على ارتداء اللباس الشرعي، والحجاب، ويتوعد المخالفين.
حين تفكر في الأمر، تذهب مباشرة إلى مسألة التوظيف، أي توظيف اسم جماعة، تكفيرية متشددة تدخل بأساليب عملها وتفكيرها الرعب في مجتمع هو في الأساس محافظ، لكنه يضج بالتنوع الاجتماعي والثقافي والسياسي. والسؤال هل تترك غزة على هذا النحو لتجتاحها الفوضى الأمنية التي إن وقعت، فإنها ستفتح على صفحات دموية، حيث الكثيرون ينتظرون الأخذ بالثأر؟. الم يفكر هؤلاء في أن إسرائيل هي الطرف الأكثر قدرة على التوظيف السياسي، والعدواني، حيث ستأخذ من هذه الظاهرة ذريعة لتبرير عدواناتها على الشعب الفلسطيني، ولتبرير جرائمها ومجازرها، وربما معاودة العدوان خلال فترة قصيرة.
ألم تتهم إسرائيل حماس بأنها داعش، وترفض المصالحة، بدعوى أن الرئيس محمود عباس يختار السلام مع من تصفهم بداعش، وليس مع إسرائيل؟ ليس هناك مستفيد من هذا التوظيف سوى إسرائيل، ولذلك فإننا ندعو العقلاء لإعادة النظر في مثل هذا التوظيف الفاشل والخطير.
نعلم أن الحكومة لا تريد أن تحكم، بدعوى عدم القدرة، وان الحكم الفعلي على الأرض وهو حماس، لا تريد أن تمارس مهمة الحكم في ظل تعطل المصالحة، ومشكلة الرواتب، ولكن ما ذنب المواطن؟ المواطن يتمنى ويدعو إلى الصلاح، وإلى إنصاف الموظفين الذين يعملون في أقسى الظروف، ولكنه لا يملك القرار، حتى يدفع هو الثمن.
والحال انه على حماس وأجهزتها الأمنية أن تتحمل مسؤوليتها في ضبط حالة الفلتان الأمني، إن لم يكن كحكم فعلى الأقل كفصيل وطني، إلى أن يخلق الله أمراً كان مفعولاً.
لماذا يقدم البعض لإسرائيل هذه الخدمة المجانية، التي لن تحل لا مشكلة مصالحة، ولا مشكلة رواتب، بل انها تعمق الأزمة الوطنية والعلاقات الوطنية فوق ما يعتريها من توتر، واضطراب؟ في مطلق الأحوال مطلوب من الفصائل الوطنية أن تتوقف أمام هذه الظاهرة الخطرة، وأن تقوم بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني، بوضع حد لها ولكنْ مطلوب أيضاً من النخب والنشطاء أن يخوضوا المجابهة وأن لا يستسلموا للخوف، فذلك جزء من استحقاق الحفاظ على الهوية الوطنية التحررية.
هؤلاء كلهم مسؤولون عن إعادة ترتيب الأولويات الوطنية على النحو السليم.