بعد القمم التي استضافتها السعودية، في أيار المنصرم من هذا العام، واستحوذت على اهتمام السياسة والصحافة العالمية، نظراً لأهميتها، والمخرجات التي انتهت إليها، تعود السعودية من الباب الواسع، لاحتكار اهتمام أهل الإعلام والسياسة.
كان من الواضح أن الملك سلمان بن عبد العزيز، بصدد تسليم مقاليد الحكم لابنه الشاب محمد، بعد أن هيأ له الخطوات اللازمة لتنصيبه، ولياً للعهد، ومنحه الثقة في إدارة البلاد.
السعودية اليوم تدخل مرحلة جديدة، من التغيير الجوهري في طبيعة نظام الحكم الذي استمر لعقود طويلة، ولم يعد يصلح للصمود أمام المتغيرات العاصفة التي تضرب المنطقة بأكملها.
يدرك الأمير الشاب، مدى أهمية التغيير في ظل خيارات محدودة، وذات طبيعة جدية قد تؤدي إلى الإطاحة بالملك والمملكة ودخولها في نفق صراعات دموية تؤدي إلى تقسيمها وتفتيتها، ما لم تبادر إلى تحقيق عملية تغيير واسعة، تمنح المملكة قدراً من الحصانة.
في ليلة ليس فيها ضوء قمر قام الأمير محمد، بجملة من الإجراءات ذات معان عميقة وبعيدة المدى، فلقد أمر بوقف عمل الشرطة الدينية المعروفة باسم "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ولاستكمال دفن هذه الهيئة ووظيفتها القمعية، والدعوية التحريضية نحو تصعيد العنف الديني، قام باعتقال نحو ستين شيخاً وإماماً وعالما من أبرز قامات السلفية الوهابية، التي يعود إلى أفكارها واجتهاداتها ودورها، نشوء وتصاعد التطرف الديني في المنطقة.
كان الأمير محمد قد خاطب هؤلاء خلال الأسبوع المنصرم حين تحدث أمام المؤتمر الخاص بمشروع مدينة الأحلام والخيال، فقال بلغة حازمة: سندمرهم ولن نسمح لهم بإعاقة المسيرة. الأمر لم يقتصر على تدمير المؤسسات السلفية بل طال أيضاً رجالات وأمراء يعملون في حقول الإعلام والاقتصاد والسياسة.
إذا صح أن نعتبر ما جرى انقلاباً، فإنه انقلاب على العائلة المالكة وتقاليدها في الحكم، ومراكز الفساد فيها، ولكنه أيضاً في الأساس انقلاب على نظام الحكم، الذي يفتح المجال أمام دستور مختلف ومؤسسات دستورية مختلفة، وبصلاحيات مختلفة، تلحظ أهمية الشراكة، بدلاً من احتكار الحكم وحصره في آل سعود.
قبل ما جرى ويجري في السعودية، وهو مفتوح على تداعيات واحتمالات واسعة، كان الملك المغربي محمد السادس، قد أعفى بلاده من الفوضى والصراع والتمزق، حين بدأ ما يعرف بربيع الثورات العربية. مبكراً أقدم الملك محمد السادس على إجراء تغييرات في الدستور، وفي الصلاحيات، ما جعل نظام الحكم بين الملكية المطلقة والملكية الدستورية، وأتاح الفرصة أمام حزب العدالة والتنمية المغربي أن يشكل الحكومة بعد فوزه في الانتخابات.
بعد سبع سنوات على ثورة الياسمين في تونس، يدرك الأمير الشاب محمد بن سلمان، طبيعة التحولات والتدخلات الجارية في المنطقة والمفتوحة على الوقت، بأنه لا مناص من المبادرة للتغيير، في الاتجاه الذي يحمي المملكة وبأن النظام الملكي السائد منذ عقود طويلة لم يعد يملك لا الحصانة ولا القدرة على حماية ذاته.
ويبدو أن الأمير الشاب أخذ يدرك بعمق أن ما بدأته وفعلته وتسببت به السلفية الوهابية، يهدد بالارتداد على الأصل، بعد أن دفع المملكة نحو الخوض في صراعات مكلفة وأدوار خطيرة.
لست واثقاً من أن التغيير الذي يقوده الأمير سلمان يستند إلى وعي بأن هذه الحقبة من التاريخ لم تعد تصلح الكيانات الدينية، والطائفية في التعامل الإيجابي مع مستجداتها ووقائعها.
غير أن ما قام به الأمير محمد حتى الآن، يخدم الفكرة التي تقول، إن زمن الأنظمة الدينية قد ولّى في أوروبا منذ القرون الوسطى، وأن العرب قد تخلفوا كثيراً، عن مجاراة أسباب وعوامل التطور الذي وقع في أوروبا، وجعلها تتقدم في التطور عن العرب لما يقرب من خمسة قرون.
وبما أن السعودية، دولة مركزية على الصعيد العربي، وهي قائدة مجلس التعاون الخليجي، فإن رياح التغيير التي تشهدها على يد الأمير الشاب، ستنتقل عدواها إلى المحيط الخليجي وما علينا إلاّ أن ننتظر لنرى، اين وكيف سيكون هذا التغيير بعد السعودية.
من المؤكد أن بدايات هذا التغيير ستقود إلى إجراءات وخطوات جذرية واسعة في النظام السياسي والمجتمع السعودي، إذا لم يكن الهدف تصفية مراكز القوى، لصالح دعم بقاء النظام الحالي، والاكتفاء بإجراءات تجميلية لا تصل إلى مستوى تغيير طبيعة النظام.
ما يجري في السعودية ينطوي على أهمية بالغة وآثار سياسية واقتصادية واسعة تشمل ما هو أبعد من جغرافيا الخليج، وذلك انطلاقاً من الدور الواسع الذي لعبته السعودية خلال المرحلة الماضية، ولم يكن كل ما قامت به، يخدم المملكة والأمة العربية. الأيام القادمة ستثبت إن كان ما جرى بداية تغيير حقيقي أم مجرد تصفية حسابات ومراكز قوى.