الحوار الذي بدأ بالقاهرة اول من امس، بين حركتي فتح وحماس وان كان من فعل الضرورة، المحكومة لحسابات اللحظة، الا انه ايضا ينطوي على ضرورات تاريخية من شأنها ان تُحدث تبديلا جذريا في المشهد السياسي والاجتماعي الفلسطيني.
غياب المعلومات عما يدور في الغرف المغلقة والاكتفاء باصدار بيان عام، يؤكد على جدية وايجابية الحوار، لا يجعلنا غير قادرين على التنبؤ بما ستؤول اليه هذه الحوارات التي تحظى باهتمام ودعم دولي وبمشاركة وضمانة مصرية جدية ومباشرة، ما يعزز الامل بامكانية وضع قطار المصالحة على سكته الصحيحة.
قد تكون دوافع الاطراف، كل الاطراف الفلسطينية والعربية والدولية المختلفة بشأن ضرورة تحقيق المصالحة، ولكن هذه العملية في سياقاتها التاريخية وفي جوهرها تشكل خطوة جذرية نحو تغيير الحالة الفلسطينية برمتها. الناس تنتظر التخلص من معانياتها الحياتية، وان تفتح المصالحة البوابات المغلقة امام الشباب وامام انطلاق عملية النهوض السياسي والمجتمعي كأساس لاعادة بناء الثقة والارتقاء لمستوى الطموحات الى الاهتمام بالقضية والمشروع الوطني.
لا شك ان هذه العملية تتسم بجملة من الصعوبات والتعقيدات وتحتاج الى زمن طويل نسبياً، ذلك ان الامر لا يتوقف على الاتفاق بين الطرفين او حتى الاتفاق من قبل الكل الوطني الذي سيلتئم بنهاية هذا الشهر وفي القاهرة ايضا.
المؤشرات والقراءات الموضوعية بالجاري من التطورات تشير الى انه سيكون بالامكان معالجة قضايا الخلاف والعقبات التي كانت سببا في فشل المحاولات السابقة. لكن الحوار سيظل قائما لفترة طويلة عند كل مرحلة من مراحل المصالحة ستنشأ الحاجة للعودة الى طاولة الحوار سواء عبر المؤسسات الوطنية او عبر الفصائل، ذلك ان هناك عدداً من الملفات التي تحتاج الى وقت، مثل موضوع الانتخابات ومنظمة التحرير ومن تفعيل المجلس التشريعي وربما ايضا الموضوع السياسي في صورة شاملة حسبما تفرضه الظروف.
في المرحلة الاولى لا بد ان ينتبه المسؤول السياسي بضرورة اتخاذ قرارات واجراءات سريعة وملموسة ذات تأثير على اوضاع الناس باستعادة الثقة بينه وبين الناس الذين دفعوا ثمن الانقسام.
في الحديث عن السياق التاريخي لعملية المصالحة، يخطئ الكثيرون حين يعتقدون ان الانقسام الفلسطيني ينشأ مع بداية مرحلة اوسلو، او انه نشأ في تموز ٢٠٠٧، او حتى انه وقع بفعل فلسطيني خالص.
الانقسام الفلسطيني موجود منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الكبرى عام ١٩٨٧، مع الاعلان عن تأسيس حركة حماس وظهور حركة الجهاد الاسلامي، كان تأسيس حركة حماس، يعبر عن مشروع آخر ذي ابعاد ورؤى واهداف مرتكزة الى العقيدة الاسلامية، ومناوئ وبديل للمشروع الوطني الفلسطيني الذي تمثله منظمة التحرير الفلسطينية التي تميزت بتعدديتها رغم الاختلافات السياسية، وفي احيان ليست قليلة كانت تلك الاختلافات حادة، لكنها لم تخرج عن اطار المنظمة كاطار وطني جامع.
رفضت الجبهة الشعبية، البرنامج المرحلي وشكلت جبهة الرفض ثم جبهة الانقاذ، لكنها بقيت تخوض نضالها من داخل اطر المنظمة، حماس سعت لأن تكون بديلا برنامجيا وتمثيليا لمنظمة التحرير، ولذلك فإنها شكلت قيادتها الخاصة خلال الانتفاضة، بموازاة القيادة الوطنية الموحدة التي عبرت عن منظمة التحرير، جاءت اتفاقية اوسلو لتعمق الخلاف الذي بدأ منذ مرحلة التأسيس، ثم تعمق الانقسام والخلاف مرة اخرى بعد الانسحاب الاسرائيلي من داخل قطاع غزة والذي وضع الحجر الاساس للانقسام الذي وقع في تموز ٢٠٠٧، من خلال انقلاب حماس على السلطة في قطاع غزة. عام ٢٠٠٦، قررت حماس ان تخوض معركة التمثيل، والشرعية، من داخل الاطار العام لاوسلو، وبدون ان تغير سياستها فخاضت الانتخابات التشريعية، وفازت باغلبية مقاعد التشريعي، لم تتغير الوجهة العامة لسياسة حركة حماس، وان تغيرت الظروف والادوات، واشكال خوض التناقض، الا ان عدم التعاطي الايجابي من قبل حركة فتح مع نتائج الانتخابات كان العقبة الاولى التي واجهتها الحركة.
احتدم الصراع داخليا وخارجيا، حيث لم تتوقف محاولات حركة حماس لان تترجم سيطرتها على قطاع غزة، بالحصول على شرعية عربية ودولية، او في ان تحظى بشرعية تمثيل الشعب الفلسطيني وان كان ذلك قد شوش على المنظمة والسلطة، التي ظلت ملتزمة بنهج المفاوضات والبحث عن فرص تحقيق سلام ينتهي بتحقيق اهداف الشعب الفلسطيني، استنادا الى ما ينص عليه المشروع الوطني. كانت حماس تتطلع الى تحقيق مشروعها السياسي، انطلاقا من غزة، وكجزء من مشروع الاسلام السياسي في المنطقة وباعتبارها جزءاً اصيلا من جماعة الاخوان المسلمين. تلقى مشروع الاسلام السياسي، سلسلة من الضربات، التي جعلت امر تحقيقه حبيس الاقدار، وفشلت حماس في تحقيق ما ارادت منذ البداية، من ان تحظى بشرعية عربية ودولية، او ان تحظى بشرعية تمثيل الفلسطينيين رغم كل ما تعانيه منظمة التحرير الفلسطينية من ضعف وهشاشة وتراجع في الدور والمكانة.
هذه الظروف بالإضافة الى عدم تحقيق انجاز وطني من خلال المقاومة وسلاحها، في ظل الانقسام الفلسطيني، والممانعة العربية والدولية، نقول هذه الظروف دفعت حماس الى مراجعة ميثاقها الذي وضعته في موازاة وكبديل لميثاق منظمة التحرير فكان ان انتجت ما عرف بالوثيقة السياسية، الوثيقة السياسية التي اسست لعملية التغيير، تطلبت تغييراً في ادوات التحقيق، فكانت القيادة الجديدة التي بدأت نهجاً مختلفاً، يقوم على التصالح مع الحالة الوطنية وتغيير سبيل تحقيق اهداف الحركة من داخل المؤسسة الوطنية الفلسطينية، لم يعد ثمة مجال للمنافسة على التمثيل والشرعية، واصبح على الحركة ان تبحث عن افضل واقصر الطرق لتحقيق شراكة سياسية مع الجسم الوطني ومن داخله، الامر الذي يجعل المصالحة الجارية، مصالحة مع التاريخ بالنسبة لحماس، وجزءا من عملية إعادة إعمار وبناء كل الحالة الفلسطينية، الامر الذي يضفي على هذه المصالحة طابعاً تاريخيا في مآلاتها وتداعياتها المستقبلية.