بقلم :طلال عوكل
في زمن الهزائم والمؤامرات الكبرى، زمن الخذلان، والبحث عن سلامة الرأس ينتصر الفلسطيني. ينتصر الفلسطيني في زمن الصراعات الدامية التي تهدد الأوطان، زمن دفع القضية الفلسطينية عن رأس سُلَّم الأولويات العربية والإسلامية، لصالح أولويات وأجندات أخرى في هذا الزمان ينتصر الفلسطيني. ينتصر الفلسطيني في زمن الشعور بالوحدانية، وما يشبه العزلة، وينتصر بدون استخدام المدافع والمفرقعات، والعنف، وكل أنواع القتل الجماعي والفردي. وتنتصر القدس رغم استمرار الانقسام الإجرامي، الذي يستنفد قوة الشعب والقضية. والسؤال هو هل القدس هي التي انتصرت أم أنه الأقصى، بما يعبّر عنه من مكانة مقدسة لدى الفلسطينيين والعرب والمسلمين، أم أن الفلسطيني هو الذي انتصر؟ وهل هو الفلسطيني الذي حقق الانتصار وألحق بدولة الاحتلال هزيمة منكرة أم أن الاحتلال هزم نفسه؟
لا بدّ من البحث عن أسباب الانتصار، وأسباب هزيمة الاحتلال في هذه المعركة، التي لا تزيد على كونها حلقة في سلسلة معارك، تتعلق بالحقوق الوطنية الفلسطينية وبالقدس كواحدة من أهم تلك الحقوق. البحث ضروري، بعيداً عن العنجهية، ودوران الرأس بسبب نشوة الانتصار، وحتى يمكن استخراج الدروس والعبر، لا لتركها في الأدراج وإنما لكي تحدث التغيير الإيجابي الضروري لتحقيق المزيد من الإنجازات والانتصارات.
يمكن لكل طرف، فصيلاً كان أو سلطة أو شخصاً، أن يدعي بأنه صاحب هذا الانتصار، أو انه كان العامل الحاسم في تحقيقه فهذا جدل تعوّدناه، وتعوّدت عليه شعوب أخرى فالهزائم لا آباء لها أم الانتصارات فإن معارك تدور من أجل الاستحواذ على نسبها. فليفرح كل على طريقته، وليصنع كل لنفسه البطولات، غير أن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أن وحدة الكل الفلسطيني هي العامل الحاسم في تحقيق الانتصار.
بالتأكيد ثمة فوارق نسبية بين أدوار الأطراف التي ساهمت في تحقيق الانتصار، لكن الحقيقة هي أن كل الأطراف ساهمت في تحقيقه حتى إذا اتخذ بعضها سبيل الإعلان عن الموقف فقط ولكن امتنع عن استخدام وسائل يمتلكها وكان يمكن أن تشكل عامل تخريب في المشهد.
ومثل ذلك من يمتنع، وهو قادر على الفعل، عن تقديم الذرائع للاحتلال، الذي أصيبت قوته بالشلل في مواجهة الصدور العارية، والحناجر المنتفخة وهي تصدح باسم الله.
القدس، كانت دائماً هناك، وكان الأقصى هناك، أيضاً، وكانت كنيسة القيامة، والأسوار التاريخية، والمحال التجارية القديمة في أزقة تحفظ عن قلب دروس التاريخ ولكن العرب والمسلمين لم يتحركوا للحفاظ على معالمها. والقدس كانت دائماً موجودة ودائماً كانت تتعرض للتهويد، وللأطماع الإسرائيلية، التي اعتبرتها العاصمة الأبدية الموحدة لدولة الاحتلال، ولكنْ لا العرب ولا المسلمون، قدموا لأهلها الدعم الذي يمكنهم من الصمود ومواجهة مخططات الاحتلال.
في كل قمة عربية، يجري الحديث كثيراً في البيانات الرسمية عن القدس ومكانتها، ويجري تخصيص مئات ملايين الدولارات لدعمها لكن ما يصلها لا يزيد على تكاليف يخت يملكه أحد الأمراء والمشايخ. المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين هو صاحب هذا اللقب عند المسلمين والمتأسلمين وعند العرب والأعراب، لكن مكانته وصفاته لم تشفع له عند هؤلاء حين تعرّض للحفريات والبحث عن هيكل مزعوم، وحين تعرّض لانتهاكات واقتحامات يومية من قبل غلاة المتطرفين اليهود.
إذاً، هي ليست الأماكن على جلالها، وهيبتها، ومعانيها التاريخية وإنما هو إنسان القدس، والإنسان الفلسطيني الذي هو صاحب المحراب وحارسه، والذي منه يستمد هويته، هو الإنسان الذي يجعل الفلسطيني المسيحي، يصلي على طريقته بين المصلين من المسلمين، وهو المسيحي الذي يغلق الكنيسة لينضم إلى المصلين في العراء، وهو، أيضاً، الذي يبدي استعداده لرفع الأذان من الكنيسة حين منع الإسرائيلي رفعه من الأقصى.
هل رأيتم الشباب المقدسي، مفتولي العضلات، أصحاب السراويل الساحلة، وقصّات الشعر الغريبة، وهم يصلون في الصف الأول ما يعبر عن وعيهم لدورهم في حماية الوطن والشعب؟ هل رأيتم شيوخنا الأجلاء، وهم يديرون المعركة بكل حكمة وحزم، ويحددون البوصلة التي يقتدي بها الكل الفلسطيني، سياسيين وفصائل ومؤسسات وأفرادا؟ إنه الفلسطيني الذي يستحق من قياداته كل الاحترام والتقدير والرعاية والمساعدة، ويحظى بوعي وطني من المفروض أن يحصّنه من الملاحقة والقمع. إذاً، هي وحدة الشعب والفصائل والقيادة والسلطة، هي التي اجتمعت على موقف واحد، التي تستحق أن تكون بطل الانتصار. إذا كان الأمر كذلك، فإن من يتخاذل إزاء دوره في إعادة توحيد الوطن والوطنيين الفلسطينيين، ينبغي أن يعيد التفكير بما يفعل. ان من يرد تحقيق الإنجازات يعرف الطريق، وهو طريق جرّبناه في معركة القدس، خاصة وأن الطريق أمام الفلسطينيين لا يزال مليئاً بالمعارك، وما من ضمانة أن يتكرر درس الوحدة في كل معركة طالما بقي الحال على حاله، وربما تتزايد العقبات أمام إمكانية استعادة الوحدة.