أما وقد انتهى المؤتمر السابع لحركة "فتح" إلى ما انتهى إليه، سواء على الصعيد السياسي أو التنظيمي الداخلي، فإن الاختلافات حول تقييم أعماله ومخرجاته إيجاباً أو سلباً لا تعني سوى مواصلة الجدل حول واقعة انعقاد المؤتمر كتحدٍ اعتبره البعض انتصاراً على مؤامرة أو تأكيداً على استقلالية القرار الفلسطيني.
في الواقع قد يلبي المخرج السياسي توجهات حركة "فتح" دون أي معارضة، ما يجعلها أقرب إلى الحزب السياسي منه إلى الحركة الليبرالية التي اتسمت بها "فتح" منذ انطلاقتها.
منذ خوضه للانتخابات الرئاسية في العام 2005، وفوزه فيها ظل الرئيس محمود عباس ملتزماً بفكر سياسي وبرنامج وخيار لم يحد عنه خلال الاثنتي عشرة سنةً المنصرمة.
مرةً أخرى يقدم الرئيس للمؤتمر برنامجاً سياسياً وافق عليه الأعضاء بالإجماع، ينطوي على وضوح وصراحة، ويحظى بمصداقية عالية، رغم زخم الأحداث والتطورات، ورغم تصاعد المعارضة السياسية الداخلية لهذا البرنامج الذي تحكم عليه العديد من الفصائل بالفشل.
كان واضحاً أن الرئيس محمود عباس قد أقصى كل المعارضين وعزز قدرته على الإمساك بكل الخيوط، وأنه لا يزال يتمتع بقدرة صحية وذهنية تحيل موضوع الخلاف حول الخلافة إلى موضوع ثانوي، حيث يبدو أن الرئيس لا يفكر في التقاعد أو التخلي عن دوره وصلاحياته.
ثلاث ساعات ونصف الساعة، كان خطابه السياسي أمام المؤتمر وقد أظهر ثقةً عاليةً بالنفس وقدم سياقاً منسجماً، ما يعني أنه لا يعاني من شيء.
في التقييم ثمة فارق بين أن يكون المؤتمر مرضياً ويجيب عن أسئلة أعضاء وكوادر الحركة وقياداتها وإن كان حقق الأهداف المرسومة لانعقاده وبينما إذا كان المؤتمر أجاب على تطلعات ورغبات القوى والجماعات والمواطنين من غير حركة "فتح".
لا يكفي بالنسبة للمواطن الفلسطيني، سياسياً كان أم عادياً، أن يكون المؤتمر ناجحاً فقط حين ينعقد، ويقرر برنامجاً سياسياً مكرراً، وينتخب قيادةً وينتصر على مؤامرة، إن كانت موجودة حقاً أو متخيلة.
يذهب التقييم إلى اتجاهات تطور موازين القوى الداخلية الفلسطينية خلال المرحلة المقبلة، وما إذا كانت "فتح" كقائدة لمنظمة التحرير والمشروع الوطني ستكون قادرة على الاحتفاظ بقدرتها على الإمساك بالدفة الوطنية.
من خارج حركة "فتح" تبدو الصورة مختلفة، ففي حين يتضاءل الأمل في نهوض فصائل منظمة التحرير الفلسطينية بحيث تكون قادرة على كسر حدة الاستقطاب الثنائي والتوازن بين حركتي "فتح" و"حماس" فإن مستقبل القرار الوطني مرهون بمن يتفوق من الحركتين على الأخرى.
أشك كثيراً في أن تتغير قناعات وأفكار الفصائل بشأن الشراكة الوطنية بحيث ينتج ذلك وضعاً فلسطينياً مغايراً لا يعطي الفيتو لفصيل. كل الحديث عن الشراكة والاستعداد لإنجاح مثل هذه الشراكة هو حديث تكتيكي، حديث للاستهلاك، فعقلية إقصاء الآخر ما تزال عميقة الجذور عند الفصائل الأساسية.
التنافس محموم وعلى قدم وساق بين حركتي "فتح" و"حماس"، فثمة توازن دقيق تظهره الانتخابات التي تجري في العديد من القطاعات ولا تقتصر على الأطر الطلابية، وحركة "حماس" يحدوها أمل كبير وطموح في أن تتسيد المشهد الفلسطيني.
وإن كانت لا تمانع في أن تقبل ببعض النتائج أو أن تساير بعض المبادرات فإنها تتطلع إلى مرحلة تنتهي فيها مرحلة تسيد حركة "فتح". قد تنجح في إطالة عمر تحكمها في المنظمة أو السلطة، عبر عمليات وخطوات قسرية، ومن خلال تحجيم دور "حماس" في هذه العملية، لكن المسألة تظل تكتيكية ومرحلية.
"فتح" اليوم تحظى بشرعية عربية ودولية، وتحظى بشرعية منظمة التحرير بعيداً عن صناديق الاقتراع، وهي تحظى أيضاً بشرعية تاريخية ونسبياً شعبية، لكن كل هذه الشرعيات غير راسخة وغير مضمونة على المدى الأبعد.
"حماس" تحظى بشرعية شعبية مستندة إلى صناديق الاقتراع، وهي شرعية يبدو أنها تتعمق يوماً بعد الآخر، حتى لو جرت انتخابات جديدة، وهي تحظى بشرعية ثورية نظراً لتمسكها ببرنامج الكفاح المسلح والمقاومة، وقد قطعت شوطاً لا بأس به على طريق اكتساب شرعية تاريخية.
قد تؤمن هذه الشرعيات لكل طرف القدرة على الاستمرار ومراكمة المزيد من أوراق القوة والدعم، لكن في الأخير فإن اللجوء إلى صناديق الاقتراع من شأنه أن يؤدي إلى تكريس أو إضعاف بعض هذه الشرعيات.
الساحة الفلسطينية لا تعمل على قاعدة التكامل واحترام الآخر وبناء الشراكات الوطنية، فكل تراجع لحركة "فتح" هو تقدم لحركة "حماس" وليس لأي طرف آخر، والعكس صحيح. غير أن السنوات العشر المنصرمة منذ وقوع الانقسام تشير إلى أن حركة "حماس" التي صمدت في أحلك وأصعب الظروف وفي ظل حصار شديد لا تزال تسجل لنفسها المزيد من المكتسبات الشعبية بما في ذلك في الضفة الغربية، حيث تسيطر حركة "فتح" على السلطة.
إذن لا يمكن تجاهل السؤال حول ما إذا كان المؤتمر السابع لحركة "فتح" قد سجّل تقدماً وأعطى مؤشرات واعدة نحو تصعيد وتطوير دور الحركة على المستوى الشعبي، أم أنه شكّل انتصاراً لأعضائه وتراجعاً في الحقل العام خصوصاً الشعبي.
على حركة "فتح" أن تجيب عن هذا السؤال المقلق بالنسبة للوطنيين الفلسطينيين، خصوصاً وأن انتصار المؤتمر على جبهة القرار الفلسطيني المستقل ينطوي على تكلفة عالية ستظهر في قدرة الحركة على استعادة الألق والقوة لعلاقاتها مع الرباعية العربية، خصوصاً مصر والأردن.
إذا لم تكن مجريات ونتائج المؤتمر مقنعة للوطنيين الفلسطينيين فإن مقبل الزمن يحمل الحركة وقيادتها مسؤولية كبيرة وتاريخية إزاء سؤال المستقبل ونقصد مستقبل الحركة الوطنية وصناعة القرار الوطني.
المصدر - جريدة الأيام