حسم المعركة في حلب وعليها يشكل تحولاً خطيراً ونوعياً في سياق واتجاهات تطور الصراع الدائر في سورية وعليها. بعد ست سنوات من اندلاع الصراع الذي خلّف دماراً هائلاً تخلله الكثير من المذابح والجرائم، وكان يستهدف تفكيك الدولة السورية وتقسيمها وتفجير نيران الفتنة الطائفية، بعد كل ذلك تتحول البوصلة نحو الحفاظ على وحدة الدولة السورية.
ما كان ذلك ليحدث لولا أن مصر، التي ثارت في الثلاثين من حزيران 2013، شكلت الجدار الأهم والأقوى والتاريخي في وجه مخططات سايكس بيكو الجديدة، التي أدارتها الولايات المتحدة لتقسيم المقسم وتحقيق الهيمنة الكاملة على الوطن العربي ومقدراته وثرواته.
صحيح أن مصر لم تتدخل مباشرةً على أرض الصراع، لكن موقفها الداعم للمحافظة على وحدة الدولة السورية شكّل عنصراً مهماً في توفير إرادة الصمود. يلتقي الموقف المصري مع الموقف الروسي الذي لعب دوراً حاسماً في المحافظة على وحدة الدولة السورية.
بعض الدول العربية التي تورطت في حسابات خطيرة وخاطئة تماماً، لم تدرك بعد أن سياساتها الداعمة للأهداف الأميركية ستنقلب عليها في وقت لاحق، ولم تدرك أن هدف إسقاط نظام الأسد ما كان ليساوي خطورة النتائج التي تستهدف وحدة الدولة السورية.
كان يمكن لهذه الفئة من الدول العربية أن تستدرك الأمر وتنأى بنفسها عن لعب الأدوار الخطرة التي لعبتها قبل أن تتحول اتجاهات السياسة الأميركية والأوروبية عن هدف إسقاط نظام الأسد.
اليوم لم يعد هناك من يدعو لإسقاط الأسد ونظامه كشرط للانتقال بالصراع إلى مربع العملية السياسية، لكن هذا التحول ما كان ليحصل لولا صمود النظام والموقف الحاسم والقوي الذي اتخذته روسيا وحلفاء النظام.
عملياً استثمرت روسيا الفترة الانتقالية بين انتخاب ترامب وتسلمه لمهامه في البيت الأبيض، لحسم معركة حلب لصالح النظام السوري قبل أن يفكر الرئيس الأميركي الجديد فيما عليه أن يفعله إزاء الصراع في سورية.
تراجع الموقف الأميركي وتراجعت مواقف الدول الأوروبية التي لم يعد لديها ما تفعله أو تقوله سوى النحيب والصراخ والشكوى من مجازر وجرائم حرب تتهم النظام وروسيا بارتكابها.
تستطيع الدول الأوروبية تجديد عقوباتها على روسيا، لمزيد من الوقت وأن يستمر التهديد بتقديم ملفات حول جرائم حرب إلى المحاكم الدولية، لكن كل ذلك لا يفيد في شيء ولا يغير من اتجاه تطور الأحداث.
لم تتمكن الدول الغربية من تغيير اتجاه تطور الأحداث، حتى لو واصلت تقديم المزيد من مشاريع القرارات إلى مجلس الأمن، فهي عليها أن تكتوي بنيران السياسات والمواقف التي اتخذتها لحماية إسرائيل حين كانت تستخدم حق النقض لإفشال كل مبادرة أو قرار لصالح الفلسطينيين.
حين تقترب من تفاصيل لوحة الصراع على أرض سورية، تكتشف حجم المؤامرة وحجم التدخلات المباشرة، ما يحول هذا الصراع إلى صراع إقليمي دولي بامتياز، ويشكل انعطافة في علاقات القوة على المستوى الدولي.
حسم المعركة في حلب وعليها لصالح خط الحفاظ على وحدة الدولة والأرض السورية رغم تهتك النسيج الاجتماعي يطرح أمام شعوب المنطقة أسئلة مهمة تتصل بالمفاضلة بين سياسات الولايات المتحدة وسياسات روسيا كقوى دولية فاعلة.
ينطوي التدخل الروسي على جدية كاملة وإصرار على النجاح في تحقيق الأهداف، بما في ذلك القضاء على الإرهاب، بينما يتميز التدخل الأميركي بالخبث وبحسابات تقوم على إدامة النشاطات الإرهابية، حتى لا يؤدي انحسارها في المنطقة إلى انتقالها إلى ساحات الدول الغربية.
كم من الوقت استغرق حسم معركة حلب وكم من الوقت تستغرق معركة تحرير الموصل التي يديرها تحالف دولي واسع؟ معركة تحرير الموصل لا تزال تتقدم ببطء شديد رغم أنها تتجاوز الشهرين، وتشترك فيها أعداد هائلة من القوات والميلشيات وتتوفر لها إمكانيات تسليحية ضخمة.
يتواطأ المشاركون في التحالف الدولي لتحرير الموصل مع الجرائم الطائفية التي يرتكبها الحشد الشعبي، بينما يرتفع صراخهم حتى النحيب على حياة المدنيين في حلب. بعد ملايين الضحايا من الشهداء والقتلى والجرحى والمشردين والمهجرين والدمار الشامل الذي تتعرض له سورية، تصبح حياة عشرات الآلاف من سكان حلب قضية القضايا.
لماذا لا تتجه الدول التي تتدخل في سورية؛ لتقصير الوقت وتقليل تكلفة الصراع والتحول، بجد نحو القضاء على الإرهاب؟ أكثر من أربعين فصيلاً وحزباً وجماعة وفرقة، كل له أهدافه وكل يعكس مصالح أطراف خارجية، كلها تتصارع على سورية وهي تعلم أن نتائج هذا الصراع لا يمكن أن تكون لصالح الشعب والدولة السورية.
يعرف كل هؤلاء أن النظام السياسي في سورية لن يبقى على حاله كما كان قبل وفي بدايات انفجار الصراع، وأن هذا النظام مقبل لا محالة على تغييرات جذرية وواسعة حين يهدأ الصراع وتتوقف آلة الدمار والقتل، لكن الحقيقة هي أن بعض هذه الفرق تنفذ أجندات خارجية وبعضها يسعى للانتقام من النظام، وبعض آخر يستهدف الاستيلاء على السلطة، انطلاقاً من برنامجه الخاص الذي لا يتمتع بالحد الأدنى من الاقتناع بالشراكة والديمقراطية والحداثة.
غير أن حسم معركة حلب لا يعني أن الأمور تتجه قريباً نحو الاستقرار، فالصراع سيظل قائماً، لكن رجحان كفته لصالح النظام قد يؤدي إلى تسريع العملية السياسية، لأن مثل هذه العملية ما كان لها أن تنطلق في ضوء توازن القوى بين المعارضة والفرق المسلحة، وبين النظام الذي أظهر صموداً أسطورياً.
في ضوء هذا التطور لم يعد ينفع الحديث عن مخرجات جنيف 1 و2، ولا عن قرار مجلس الأمن رقم 2254، فلقد تغيرت المعطيات والظروف والجديد يحتاج إلى حوارات جديدة تأخذ بعين الاعتبار شروط الوضع الميداني الجديد.
في ضوء ذلك يترتب على الدول العربية المتورطة في سورية أن تعيد النظر في سياساتها ومواقفها وسيترتب على الدول الغربية اتخاذ السياسات والإجراءات الضرورية لحماية نفسها من موجهات إرهاب مقبلة بسبب الهزيمة التي تلحق بهذا الإرهاب في سورية والعراق.