لم يكن ليشكل فرقاً جوهرياً ما إذا كانت منظمة التحرير أو السلطة قد تلقت دعوةً رسمية لحضور حفل انتقال السلطة من الرئيس السابق الديمقراطي أوباما إلى الرئيس الجديد الجمهوري ترامب، فإذا كان الامتناع عن دعوة المنظمة أو السلطة مؤشراً سلبياً شريراً، فإن المؤشرات السلبية والشريرة قد سبقت حفل التنصيب.
ما قيل إنها الصدمة الأولى لإسرائيل، بسبب التحذير الذي تلقته من إدارة ترامب إزاء احتمال قيام إسرائيل بضم مستوطنة "معاليه أدوميم"، لا يبدد المخاوف الفلسطينية، لكنه يحدث قلقاً مؤقتاً لدى حكومة المستوطنين.
تبدو المكافأة الأولى لإسرائيل، بعد التصريحات المتواترة بشأن نقل السفارة الأميركية من "تل أبيب" إلى القدس، في تعيين الأميركي اليهودي جارد كوشنير كمبعوث للإدارة الأميركية لعملية السلام، وتعيين سفير يهودي لأميركا في إسرائيل.
على أن تداعيات السياسة التي يتحدث عنها ترامب ومفرداتها تتواصل مع ما كان ردده خلال الحملة الانتخابية وما بعدها، هذه التداعيات لا تطال الفلسطينيين وحقوقهم، وكل ملف الصراع الفلسطيني والعربي- الإسرائيلي فقط، فهي تهز كل أركان الكرة الأرضية.
ترامب يقدم مراجعةً نقديةً مجنونة لتاريخ السياسة الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، ويبشر بعصر جديد من حيث الأولويات والأهم من حيث القواعد التي تنبني عليها المصالح والسياسات الخارجية. حين يشدد ترامب على أنه سيعتمد سياسة تقوم على مبدأ "أميركا أولاً"، فهو لا يخترع نظريات أو شعارات جديدة، فلقد كانت أميركا أولاً بالنسبة لكل الرؤساء الذين سبقوه، لكن المسألة تعتمد على رؤى وسياسات مختلفة لتحقيق مبدأ أميركا أولاً، رغم أنها حتى اليوم أولاً، بمعنى أنها تتربع على عرش علاقات القوة الدولية.
من حق الرئيس الأميركي أن يبحث ويتوخى مصلحة شعبه أولاً، كما هو حق بل واجب لأي نظام حكم على وجه الكرة الأرضية لأن يفعل الشيء ذاته لبلاده قدر المستطاع. أميركا تتحمل أعباء ضخمة للمحافظة على دورها القيادي في العالم، فهي صاحبة المساهمة المالية الأكبر في الأمم المتحدة، وهي صاحبة المساهمة الأكبر في حلف الناتو، وهي من تتحمل تكاليف باهظة من وراء الحروب التي تخوضها لضمان هيمنتها واستقرار وتطوير مصالحها، وهي أيضاً من تتحمل تكاليف باهظة لحماية أمن حلفائها، سواء الأوروبيون أو في مناطق كثيرة أخرى من العالم.
فصحيح أن هذه التكاليف الباهظة التي تكبدتها وتتكبدها الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية كانت سترفع كثيراً مستوى رفاهية المجتمع الأميركي، لكن هل كانت الولايات المتحدة ستحظى بالقوة الشاملة والمكانة والتأثير الذي تحظى به اليوم، لو أنها انكفأت على نفسها؟
جدل التركيز على الداخل أو الخارج لم يغب يوماً عن دوائر التفكير الإستراتيجي الأميركية المناط بها صناعة القرار في مختلف الإدارات السابقة، لكن ما يطرحه ترامب يذهب إلى ما يمكن اعتباره انقلاباً أو ثورةً أو تمرداً على كل طرق التفكير السابقة.
ترامب يدعو إلى إعادة صياغة الأولويات وإلى إعادة صياغة المفاهيم وعلاقات القوة، ما من شأنه أن يؤشر إلى تغييرات جذرية في النظام العالمي وفي مبادئ صياغة التحالفات، وما قد يؤدي إلى فوضى عارمة وتنافس شديد بين القوى الفاعلة دولياً.
ما يقدمه ترامب يؤشر إلى إمكانية إعادة النظر في توزيع العمل على المستوى الدولي، الأمر الذي يحدث تحولاً في الآليات التي أنتجتها العولمة، بحيث يعيد تركيز عمليات الإنتاج إلى الولايات المتحدة، بعد أن كانت الشركات العابرة للقارات قد أرست توزيعاً مختلفاً للعمل، سمح لعديد الدول أن تشهد تطوراً كبيراً في صناعاتها ومنتجاتها.
ثمة ضحايا كثر إذا ما قيض للرئيس الأميركي أن ينفذ ما شدد عليه في خطاب التنصيب، وهو أمر مرجح نظراً لضعف المعارضة الديمقراطية في مجلسي الشيوخ والنواب. أوروبا الموحدة ودولها منفردةً سيكون عليها أن تدفع الثمن وأن تتحمل تكاليف حماية أمنها ومساهمتها في صيانة الأمن العالمي.
في هذه الحالة سيكون على دول كألمانيا واليابان اللتين كان ممنوعاً عليهما منذ الحرب العالمية الثانية أن تطورا قدراتهما العسكرية، بما في ذلك قدرات نووية، سيكون على مثل هذه الدول أن تخصص ميزانيات ضخمة على حساب الإنتاج المدني لضمان أمنها في غياب الضامن الأميركي.
ومثل هذه الدول دول أخرى من بينها دول الخليج العربي، التي عليها كما يقول ترامب أن تدفع ثمن الحماية الأميركية لأمنها، ما سيؤثر على سياساتها وقدراتها وموازناتها وبالتالي مستويات تطورها.
التيار الإسلامي كله بكل عناوينه وأسمائه وأصوله وتفرعاته من المتوقع أن يكون أحد الضحايا، فالحديث عن أولوية خوض معركة حاسمة ضد الإرهاب، غير معزولة عن رؤيته للإسلام والمسلمين وحركاتهم السياسية.
من الواضح أن من يهزأ ويسخر من تاريخ أكثر من سبعة عشر رئيساً وإدارة أميركية لن يتساهل مع دول أخرى سيكون عليها أن تقرر دفع الثمن في الحالتين، حالة الاقتراب الشديد من السياسة الأميركية أو الابتعاد الواسع عنها.
في حالة الاقتراب الشديد، على هذه الدول أن ترضى بعلاقة السيد بالعبد، بمعنى التبعية المطلقة حتى لو كانت هذه التبعية وهي بالتأكيد ستكون على حساب شعوب ومصالح هذه الدولة. أما الابتعاد عنها فإنه يشكل مبرراً للولايات المتحدة لكي تبطش بكل من تعتقد أنه يعاديها.
الأمم المتحدة قد تكون إحدى ضحايا التوجه الأميركي الجديد، ذلك أن إدارة ترامب لن تتورع عن استخدام حصتها في ميزانية هذه المؤسسة من أجل إخضاعها لسياساتها، خصوصاً وأن الدول الأخرى التي تملك القدرة على التعويض ستكون مضطرة لتوظف كل إمكانياتها في حماية أمنها القومي.
السياسة التي أفصح عنها ترامب تشبه إلى حد كبير سياسة الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، التي تعتمد بدورها الحمائية والفوقية وأنانية المصالح واستخدام القوة المتطرفة لصالحها. كما أن ما تلفظ به ترامب حول النساء والهجرة والمسلمين يشي بوجود نظرة عنصرية وإقصائية للآخر.
هذا يعني أن الولايات المتحدة تذهب أكثر فأكثر نحو العزلة الدولية، شأنها في ذلك شان إسرائيل، ما يعني أن هذا التشابه سيجعل الدولتين أقرب إلى بعضهما البعض من أي وقت مضى. ربما أكون قد أوغلت في تقديم تحليل متشائم للانقلاب الأميركي، وربما لم أنجح في تقديم تحليل أوسع وأعمق، لكن الحراك الشعبي الذي انطلق في القارات الخمس في الوقت الذي كان فيه ترامب يلقي خطابه المرتجل، يشكل دليلاً على صحة هذا التحليل.
قبل أن تندلع الاحتجاجات في عديد العواصم، لم تكن الاحتجاجات في الداخل الأميركي قد توقفت، بما في ذلك لحظة انتقال السلطة، حيث خرج مئات الآلاف من الأميركيين ولذلك فإن مشهد المواجهة العنيفة بين الشرطة والمحتجين قد يتكرر كثيراً في أميركا.
كان حري بالحركات الشعبية والأحزاب العربية أن تخرج إلى الشوارع تنديداً واستنكاراً وربما كان على الحكومات العربية أن تفعل ذلك، أو أن تعبر بصريح العبارة عن استنكارها، لكن العرب تعودوا على الخضوع، وتخلفوا عن فهم ومجاراة التطورات الدولية الصاخبة. ما زال العرب يراهنون على أن يبدي ترامب وإدارته بعض الشفقة بحالهم، لكنهم لن يحصدوا إلا الخيبة وطعم العلقم.
بالنسبة للفلسطينيين لا أرى فرقاً كبيراً بين ما تفوه به ترامب وبين سياسات سابقيه، ففي الحالتين لم تعد ثمة إمكانية لعملية سلام منصفة تؤدي إلى تحقيق رؤية الدولتين. لو كان نجح السيناتور المخضرم جورج ميتشل، لكان يمكن المراهنة على كوشنير المبعوث الأميركي صاحب الستة وثلاثين عاماً.
لا مجال اليوم لمواصلة سياسة سحب الذرائع أو سياسة إنقاذ ما يمكن إنقاذه وفي كل الأحوال فإن الصراع ينفتح على أوسع أبوابه ويعود إلى أصله بما أنه صراع وجود وليس صراع حدود، حتى لو كان المخطط الإسرائيلي المدعوم أميركياً يستهدف إقامة الدولة في غزة، فإن ذلك لن يغير من واقع الحال كثيراً.
هنا يترتب التحذير من أن دولة غزة بإدارة "حماس" لم تعد ممكنة إطلاقاً في ضوء مؤشرات السياسة الأميركية- الإسرائيلية، وذلك عامل يضاف إلى عوامل كثيرة تجعل موضوع المصالحة واستعادة الوحدة أمراً يستحق التضحية والتضحية الكبيرة والنوعية إن تطلب الأمر ذلك.
الخيارات بالنسبة للكل الفلسطيني أصبحت ضيقة جداً جداً ومكلفة جداً جداً، وخيار المصالحة واستعادة الوحدة هو الخيار الأقل تكلفة والأكثر ضماناً لكل أطياف الحركة الوطنية والإسلامية الفلسطينية.