هي ليست العدوى، ولا هي تأثيرات مجتمع ما له علاقة بالمحيط الاجتماعي والسياسي المحيط، فإسرائيل تنسب نفسها إلى الدول الديمقراطية، وهي لم تنجح ولن تنجح في أن تكون جزءاً من المحيط العربي.
المحيط العربي دخل منذ عشرة أعوام مرحلة شديدة الاضطراب ولا تزال تخضع لعوامل داخلية متحركة، تعود أسبابها لطبيعة النظام العربي الرسمي، الذي يقوم على غياب القانون، والقمع، والفساد، والإفقار، رغم ما تمتلكه الأمة العربية من إمكانيات وثروات هائلة.
ثمة عناد عربي رسمي، إزاء الاعتقاد بأن الاستبداد والقمع هو الوسيلة الفضلى لدوام السيطرة، وتحقيق الاستقرار، ولعلّ من أبرز مثالب النظام العربي الرسمي، الذي يُمجّد القبلية في الحكم، أنه مستلب الإرادة الوطنية، الأمر الذي يسهل على الطامعين وهم كثر، التطاول والابتزاز وإفراغ الوطنية من مضامين السيادة والاستقلال حتى بمفهومه النسبي.
تتبجّح الدول التي تنتسب إلى عالم الديمقراطية والقانون وحماية حقوق الناس، والمساواة بينهم، بكونها محصّنة إزاء الهزّات الاجتماعية، ولقد ثبت عبر التجربة التاريخية أن الرأسمالية تبدع في اجتراح الآليات التي تمكنها من تجاوز أزماتها البنيوية.
هذه المنظومة لا تعترف بأن قدرتها على تجاوز أزماتها البنيوية تكون من خلال الحروب ونشر الظلم وطحن المزيد من الفئات الفقيرة والمهمّشة، في بلدانها وعلى حساب مجتمعات أخرى.
قد تكون هذه المقدمة النظرية طويلة، حتى نصل إلى جملة المقال. جملة المقال وهي أن إسرائيل ليست جزيرة معزولة عن التطورات البشرية، فإذا كانت تنتسب، زوراً وبهتاناً إلى منظومة الدول الرأسمالية الديمقراطية فلتدرك أنها تتميز عن مثيلاتها سلباً.
المنظومة الديمقراطية، ليست محصّنة، ومن دون العودة إلى وقائع التاريخ، فإن الولايات المتحدة الأميركية، عاشت وتعيش احتجاجات اجتماعية واسعة، آخرها على خلفية عنصرية، وفرنسا عاشت وتعيش ظاهرة أصحاب السترات الصفراء.
لا نطيل الأمر، فلقد دخلت إسرائيل في الأشهر الأخيرة وخلال فترة وجيزة، مرحلة اندلاع احتجاجات، متقاربة زمنياً، وتحمل شعارات ومضامين ذات أبعاد اجتماعية اقتصادية عميقة على خلفية جملة من التناقضات الداخلية ليس من بين أهمها الملف السياسي الذي يتعلق بسياسة الاحتلال.
إدارة فاسدة، يعمل رئيسها نتنياهو كل الوقت لحماية رأسه ومستقبله، حتى لو أن ذلك يؤدي إلى الإطاحة بالنظام القانوني.
رئيس حكومة لا يمكن الوثوق به من قبل حلفائه وحتى مريديه، لا يعرف كيف يخبئ رأسه وعلى من يستند لإنقاذه من وعوده الفاشلة، إزاء سياسة الضمّ، ولا كيف سيحافظ على وعوده الائتلافية، أو يؤمّن الاستقرار النسبي لـ "حكومة الرأسين".
هو على خلاف شديد مع بني غانتس حول الضمّ، وحول الموازنة، وحول كيفية إدارة أزمة مواجهة "كورونا" وعلى الصلاحيات المتعلقة بوزارة العدل، والجهاز القضائي وجهاز الشرطة.
نتنياهو يخوض معاركَ سرّية وعلنية، ويدبّر مؤامرات على وسائل الإعلام الإسرائيلية، وفوق كل ذلك فإنه المسؤول عن الآثار الاقتصادية والاجتماعية التي تتسبب بها جائحة "كورونا"، التي أخذت ترتفع أرقام الإصابة بها إلى ما يقرب الألفين يومياً.
ومع استمرار الجائحة، فإن معدّلات البطالة والفقر، والتهميش تتسع يوماً بعد آخر وتُحدِث خللاً كبيراً في اقتصاد الدولة.
ربما كانت هذه المظاهر مشتركة مع مجتمعات أخرى، لكن إسرائيل تتميز عن من تدعي الاقتران بهم، بأنها دولة احتلال، دولة عنصرية توسعية، تظل محكومة لفوبيا الخوف الوجودي.
لماوتسي توتغ مقولة عظيمة، حين قاد ثورته، فلقد قال: "إن الحريق يبدأ من أصغر الشرر"، ما يعني أن الآلاف القليلة التي تخرج في إسرائيل احتجاجاً على السياسة القائمة وتطالب برحيل نتنياهو، قد تكون الشرارة التي تحرق السهل.
ليبرمان المتطرف حذر مراراً من أن الأوضاع قد تتدهور نحو تمرد اجتماعي واسع، وبعض المسؤولين الأمنيين، يكثرون من التحذير بأن ثمة مخاوف من أن يتعرض نتنياهو لمحاولة اغتيال مثلما حصل مع اسحق رابين.
إزاء هذه التطورات القائمة والمرتقبة في إسرائيل، التي تواجه عزلة دولية متزايدة، وتتخوف من أن تبدأ "الجنائية الدولية" تحقيقاتها بشأن ارتكابها جرائم حرب وجرائم بحق القانون الإنساني.
لا بدّ أن نعترف بالدور المهمّ الذي لعبته وتلعبه السياسة الفلسطينية. السياسة الفلسطينية تميّزت بنزع الذرائع، والتمسك بالقانون الدولي، وأجادت تقديم الفلسطيني كضحيّة بما ينطبق مع واقع الحال، ولكن من دون التذلّل، وأعطت مساحة واسعة للعمل على المستوى الدولي.
يستدعي ذلك خطوة كبيرة وحاسمة باتجاه إنهاء الانقسام، وامتلاك ورقة الوحدة الوطنية، وتعزيز الثقة بين الأطراف، وتحقيق تفاهمات جدية بشأن توزيع الأدوار في إطار التكامل والتفهم المشترك، الأمر الذي سيكون له انعكاسات عميقة وواسعة بما في ذلك على التناقضات الداخلية في دولة الاحتلال.