قطار التغيير، وصل إلى لبنان، وهو مؤشر على غياب أي حصانة عن أي نظام عربي، غير أن أجراس الإنذار التي تنطلق بقوة متزايدة في المنطقة منذ نهاية العام 2010، لم تصل على ما يبدو، إلى مسامع بعض الحكام، الذين يعتقدون أنهم مكلفون من الرب، لرعاية "أغنامهم". العوامل الخارجية حاضرة، في كل ساحات الفعل الشعبي العربي، ذلك أن المخططات المعادية، مكشوفة، وباتت معروفة للجميع، وبعيداً عن نظرية المؤامرة. غير أن قوة العوامل الخارجية التي تقف وراءها الولايات المتحدة وإسرائيل بالدرجة الأساسية، ليست العامل الحاسم، في التحولات الجارية، فبالرغم من معرفة القوى الحاكمة، بمدى قوة العامل الخارجي، الا ان تلك القوى، لم تعد تملك الإرادة، لمواجهة تلك المخططات درءاً للمخاطر التي تستهدفها، وتستهدف أنظمتها، لا تعترف تلك القوى بأن النظام العربي الرسمي، قد اصبح خارج التاريخ، وان الزمن قد عفا عن ذلك النظام، ما يوجب التغيير.
ما زلت أعتقد ان الملك محمد السادس ملك المغرب، هو الأذكى من بين أقرانه من الزعماء العرب، فلقد بادر مبكراً، إلى اجراء اصلاحات دستورية مناسبة، ساهمت في تبريد الوضع الداخلي، خاصة وأن المغرب معروف بمليونياته الجماهيرية، ورغبته الجامحة في التغيير. دون ان يتخلى عن مقامه، نجح الملك محمد السادس، في أن يلقي بأعباء الأوضاع، في حضن الأحزاب السياسية، التي عليها أن تتصارع فيما بينها، على هوية وجوهر التغيير المطلوب والممكن.
ما كان يمكن ان يمر كل هذا الوقت من الاحتجاجات الشعبية العارمة، التي شهدها عديد الدول العربية، دون أن تصل رياحها إلى لبنان الذي تعود كل الوقت، ان يكون ساحة تصفية الحسابات الإقليمية، وساحة صراع بين قوى خارجية عاتية.
لبنان يخرج عن بكرة ابيه، يرفض السياسة الاقتصادية التي فكرت الحكومة باللجوء اليها، بحجة خفض الدَّين الخارجي، ويرفض تحميل المواطن المسؤولية عن خطايا السياسات الحكومية، وصراعات القوى، والتي تتجلى في الارتفاع الخطير في الأسعار.
الأسعار في لبنان، وبقليل من الخدمات الاساسية التي تقدمها الدولة، تضاهي الاسعار غلاء في كثير من الدول الغنية والمتقدمة، حتى اصبح الحل امام الناس البحث عن الهجرة، الأمر الذي ادى عملياً الى ان يكون الجزء الاكبر من اللبنانيين خارج وطنهم.
يقدم اللبنانيون نموذجاً فريداً، من خلال تجاوز الطائفية السياسية التي تسيطر على الوضع اللبناني منذ الاستقلال، وتجاوز الانتماءات الحزبية الفسيفسائية المعروفة عن لبنان، فيرفع الكل فقط علم لبنان. المهاجرون اللبنانيون، لم يتأخروا عن الخروج بعشرات الآلاف، دعماً لأهلهم في لبنان، والأرجح أن تعم التظاهرات عديد الساحات والدول التي يتواجد فيها اللبنانيون.
القوى السياسية تتصارع فيما بينها، لإلقاء المسؤولية على هذا الطرف أو ذاك، فالبعض يحمل رئيس الحكومة المسؤولية، والبعض الآخر يلقي بها على "حزب الله"، وآخرون على الرئيس، غير ان المشكلة والأزمة أعمق من ذلك بكثير، وتتعلق بطبيعة النظام السياسي الطائفي الذي يحكم البلاد. "حزب القوات اللبنانية"، ينتهز الفرصة للهروب من المسؤولية فيقدم وزراؤه الأربعة استقالتهم، ويطالب بانتخابات نيابية مبكرة وكأن المشكلة هي في المجلس النيابي، وحصص القوى.
يحاول سعد الحريري، رئيس الحكومة، أن يقدم خطة، لتجاوز الأزمة، من خلال فرض ضرائب على البنوك، وتخفيض رواتب الوزراء والنواب، بالإضافة الى إجراءات أخرى، تستثني إمكانية فرض ضرائب على المواطن، لكن الأزمة أعمق بكثير، فالحال بائس بما هو عليه، الحال، بدون ضرائب جديدة.
واضح أن خطة الحريري، لم تنجح في تهدئة خواطر الجماهير، التي خرجت بكثافة اكبر في لبنان، وفي خارج لبنان، بينما تشير المعطيات على الأرض، الى ان هذه الجماهير لن تعود الى بيوتها في وقت قريب، وان لا الحكومة ولا الأحزاب لديها ما يلبي طموحات الناس.
في ظاهر الأوضاع، لا يبدو ان حزباً معيناً يقف وراء الاحتجاجات الشعبية، ويقودها، الأمر الذي ينطوي على احتجاج في الجوهر على الأحزاب، وعلى طبيعة النظام الطائفي.
الهتافات التي تصدر عن المتظاهرين غير موحدة، فالبعض يهتف بسقوط الحكومة، والبعض الآخر يهتف بسقوط النظام، ولكن الجوهري في الأمر، هو ان عمق هذه الاحتجاجات يستهدف النظام وليس الحكومة. ان كان الامر يتعلق بتغيير الحكومة، فلا جدوى من الاحتجاج، ذلك ان النظام في لبنان، الذي يستند الى توزيعة طائفية سيعيد الامر الى الطائفة السنّية، التي يتزعمها رئيس الحكومة الحالي سعد الحريري لاعادة تشكيل الحكومة، وبالحصص ذاتها.
الازمة اذاً ليست ازمة حكومة، وانما ازمة النظام الطائفي، ولذلك فان لا احد يستطيع ان يتنبأ، بمآل هذه الاحتجاجات وما اذا كانت ستؤدي الى الاطاحة بكل النظام السياسي، الذي عرفه لبنان منذ استقلاله عام 1945.
بعيدا عن التمنيات، فإن بقاء الجماهير في الشوارع، واستمرار واتساع نطاق الاحتجاجات داخل لبنان وخارجه، ينطوي على احتمال اندلاع حرب أهلية، بين من يواصلون التمسك بالنظام الطائفي، وبين من يجدون الفرصة لتغييره، وركوب موجة الجماهير نحو التغيير الجذري. في الحديث عن إمكانية قيادة الاحتجاجات الشعبية نحو تغيير طبيعة النظام تغيب عن المشهد الأحزاب القوية، التي تتبنى رؤية التغيير الجذري والتحول نحو نظام وطني ديمقراطي يعيد صياغة هوية لبنان بعيدا عن المحاصصة الطائفية، التي ستظل قنبلة موقوتة قابلة للانفجار الشامل في اي وقت. لقد تراجعت الحكومة عن قراراتها لكن الناس لم يتراجعوا ولا يبدو انهم سيتراجعون عن ثورتهم.