الإضراب الجزئي الذي يخوضه منذ أسبوعين، حوالي الألفين وسبعمائة أسير، يعكس من ناحية، عمق تأثير الانقسام الفلسطيني على الحركة الأسيرة ومن الناحية الثانية ما ينطوي على قراءة سياسية لتطورات الملف الفلسطيني الإسرائيلي.
فالاحتلال وإجراءاته التعسفية الخارجة على كل القوانين والمواثيق الدولية، ليس جديداً، ولا الانقسام الفلسطيني الذي مضى عليه عشر سنوات، هو جديد أيضاً، لكن الجديد هو ما يتحرك وسط حالة من التشاؤم على جبهتي إنهاء الانقسام، والعملية السياسية في ظل ثبات وتطرف السياسة الإسرائيلية.
كان من الممكن أن يكون الإضراب شاملاً، لمعظم الأسرى الذين يبلغ عددهم السبعة آلاف، لولا التناقضات والحسابات التي تعصف بالتوافق الفلسطيني حول ملف يفترض أنه عنوان وحدة للفصائل والشعب على حد سواء.
يعرف الجميع أن النسبة الغالبة من الأسرى هم من قيادات وكوادر وأعضاء، ومناصري الفصائل السياسية، خصوصاً من حركتي فتح وحماس، ولو توفر لدى هذه الفصائل قرار بتفجير الإضراب في وجه الاحتلال وإجراءاته وسياساته لكان عدد المضربين أكبر بكثير مما هو عليه.
إذاً، قرار خوض الإضراب ليس قراراً فصائلياً، وإنما هو قرار وطني بامتياز من حيث كونه يستهدف الاحتجاج في وجه كل الأطراف ذات العلاقة بملف الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي، بما في ذلك أطراف الصراع والانقسام الفلسطيني.
لا يسعنا أن نصدق بأن هدف الإضراب مطلبي، وإن كانت القضايا المطلبية، استحقاقات واجبة تستحق النضال والتضحية من أجل تحقيقها في ضوء تغول إدارة السجون بحق الأسرى. في كل الأحوال لا إمكانية للفصل بين ملف القضايا المطلبية وهو عامر بالمطالب وبين الأبعاد السياسية، إذ لا شيء يتحرك على جبهة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي معزولا أو يمكن عزله عن السياسة.
ومن يخوض معركة كهذه مفتوحة تنطوي على مغامرة بحياة العديد من الأسرى ومنهم مئات المرضى لا يمكن أن يفكر فقط بأنانية، الاحتجاج على ما وصفته الروايات الإسرائيلية بأنه احتجاج من قبل مانديلا فلسطين مروان البرغوثي على تهميشه من قبل اللجنة المركزية لحركة فتح، التي يستحق أن يتبوأ فيها مركز نائب الرئيس، بعد أن حصل على أكثر الأصوات.
إذاً، وبعيداً عن الروايات الإسرائيلية المفبركة، والروايات التي تنطوي على تواضع المناضلين، فإن من قرر خوض الإضراب يدرك بأنه يفجر في وجه الجميع صواريخ حقيقية تنتمي إلى مفردات المقاومة الشعبية السلمية، التي يتغنّى بها الجميع، ولا تجد من يمارسها كما تستوجب الممارسة.
هذه الصواريخ لا تلقي بالمسؤولية على أي طرف يمكن أن يتعرض للحرج والتساؤل والضغط من قبل الأطراف التي تسعى لضمان الهدوء التام للميدان، قبل انطلاق الجهد الأميركي نحو استئناف وتفعيل المفاوضات والعملية السلمية.
وهذه الصواريخ لا يمكن أن تجد على وجه الأرض من يصنفها بالإرهاب، أو بارتكاب جرائم حرب ضد مدنيين أو غير مدنيين، وهذه الصواريخ، تنطوي على تعديل لميزان الردع بدون متفجرات ونيران، ودمار، لكنها يمكن أن تحقق أهدافاً أكثر أهمية من استخدام الصواريخ التقليدية. هذه الصواريخ لا تستدعي قيام إسرائيل باستخدام ترسانتها الحربية المدمرة بقدر ما أنها تستفز كل عوامل الحقد والكراهية والعنصرية والتطرف الاحتلالي، وتشكل لإسرائيل فضائح لا قبل لأحد في هذا العالم على تحملها.
في حرب 2014، ارتكبت إسرائيل جرائم حرب، وأسفرت عن استشهاد وجرح آلاف ودمار عشرات الآلاف من البيوت والمؤسسات والمرافق الحيوية، دون أن تلقى العقاب الذي تستحق من قبل المجتمع الدولي.
لم تتعرض إسرائيل لدمار، وإن كانت حصيلة قتلاها وجرحاها لا تزيد على مئات قليلة، لكن المعركة التي يخوضها الأسرى اليوم تنطوي على كل مقومات المعركة الناجحة التي يحقق فيها الفلسطينيون انتصاراً سياسياً ومعنوياً وأخلاقياً، دون الكثير من الدماء والدمار.
يعرف الجميع أن وفاة كل أسير بسبب الإجراءات الإسرائيلية، والسياسة الإسرائيلية يتسبب في فضيحة، الأمر الذي تعرفه إسرائيل وجعلها أكثر من مرة تتجنبه، من خلال الاستجابة لطلبات العديد من الأسرى الذين خاضوا إضرابات فردية.
بإمكان إسرائيل أن تدير ظهرها، وأن تعتلي أسقف أعلى الأبراج في تل أبيب وأن تعبر بأقصى درجات التطرف عن حقدها، لكنها تعلم أنها مهزومة سلفاً في هذه المعركة لأنها تستخدم أسلحة صدئة، سئمها العالم المتحضر وغير المتحضر.
في هذه المعركة ليس بإمكان إسرائيل ممارسة الضغط على السلطة ولا يفيدها التنسيق الأمني، وهي غير قادرة على ممارسة الضغط على "حماس"، وليس لها أن تنتقد أو تلوم أو تهدد أي طرف فلسطيني، فالمعركة داخل البيت وخارج السيطرة، فمن سيطلق النار، إنما ستكون على قدميه.
الإضراب، حتى لو بقي جزئياً، والأمل هو أن تنضم إليه المزيد من الأعداد، كفيل بأن يضع الكل في زوايا حرجة. عدا إسرائيل فإن السلطة الوطنية وفق منظورها الراهن، لا ترغب في أن تعاني هذه الحالة من التشويش، قبل الزيارة المقررة للرئيس محمود عباس إلى واشنطن. الرئيس يحتاج لأن يكون ممثلاً لكل الفلسطينيين، قادراً على السيطرة، ومستعداً للتعامل مع استحقاقات إعادة الحياة للعملية السلمية.
في الأصل فإن هذا الاستحقاق هو الذي يقف وراء المنطق الحازم الذي يتحدث به الرئيس ويعمل عليه لاسترجاع غزة، رغم معرفته بالأوجاع التي يتسبب بها هذا العمل. وفي الأصل فإن الإضراب يشكل بطريقة أو بأخرى احتجاجاً على السياسة الأميركية بخصوص الملف، ونقصد ملف الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، إذ يبدو أن من قرر خوض الإضراب، يمتلك قراءة سياسية غير متفائلة إزاء التحرك الأميركي.
وهو على نحو أو آخر احتجاج قوي في وجه طرفي الانقسام الفلسطيني، الذي لم ينفع الحوار في إنهائه، كما يبدو أن الضغوط لن تؤدي إلى إنهائه، وهو احتجاج على الهدوء الذي، يسود الساحة الفلسطينية في مواجهة السياسات الإسرائيلية التي لا تتوقف عن نهب الأرض، وبناء المستوطنات، ومصادرة الحقوق.
وفي كل الأحوال فإن هذا الإضراب المفتوح على التضحيات والزمن والمفتوح على التداعيات، قد يشكل الشرارة التي تحرق السهل، حيث إنه يحظى في كل يوم بالمزيد من التضامن والدعم والتأييد في كل أركان الأرض بما في ذلك في الولايات المتحدة.
أما الأهم فهو أن استمرار الإضراب، وما قد يؤدي إليه من سقوط لبعض الشهداء، من شأنه أن يحرك الجماهير الفلسطينية نحو انتفاضة شعبية سلمية عارمة، لا يقوى أحد على منع اندلاعها أو وضع حدود لها.
ومن الواضح أن الحركة الأسيرة، تعود هذه المرة، كما وقع في مرات عديدة قبل أوسلو، كي تمارس دورها ونفوذها الشعبي، في إدارة الصراع متجاوزة القيادات، المسيطرة، وكل ما تملكه من أدوات مسلحة أو غير مسلحة.