ليس لـ»كورونا» أن تفتخر أو تتباهى بأنها الأسوأ والأكثر قسوة على البشر من الاحتلال الإسرائيلي، ومن ضحايا الرأسمالية المتوحشة. صحيح أن «كورونا» فرضت قوانينها على سكان الأرض وأجبرتهم على تغيير سلوكهم اليومي ولكن إلى حين، لكنما ما حصدته ومن المتوقع أن تحصده لا يشكل سوى نسبة محدودة بالقياس لضحايا الحروب والصراعات والفقر والتخلف.
«كورونا» لم ترغم الناس على التشرد والهجرة والتفكك الاجتماعي وانتشار الرذيلة وتفكك منظومة القيم، فالناس مضطرون للتلاحم الاجتماعي في محاجرهم يأكلون ويشربون ويعيدون صياغة العلاقات المشتركة التي بددتها شروط العمل القاسي بحثاً عن لقمة العيش واضطهاد الأنظمة السياسية المستبدة على حقوق وحريات البشر.
حتى الآن، تصيب «كورونا» نحو مليونين وربع المليون إنسان، وقضى بسببها ما يقرب من مئة وستين ألفاً وعدد المتعافين يصل إلى ثلاثة أضعاف المتوفين. ماذا عن الاحتلال الإسرائيلي الذي أسقط مئات آلاف الشهداء وأكثر منهم من الجرحى والذي يتبع سياسة الباب الدوار في التعامل مع الإنسان الفلسطيني، إذ لا يهبط عدد الأسرى في سجونه عن الخمسة آلاف.
منذ العام 1967 يكون مليون فلسطيني من سكان الضفة وغزة والقدس قد أدخلوا السجون الإسرائيلية بمعدل سبع عشرة حالة اعتقال يومياً. هذا يعني أن كل عائلة وكل بيت ذاق مرارة السجن والحرمان والتعذيب، وبعضها لأكثر من فرد في العائلة، أو لمرات عديدة لبعض أفرادها.
يعتقل الاحتلال الإسرائيلي المجتمع الفلسطيني في الأراضي المحتلة العام 1967 ويشرد نصف الشعب الفلسطيني في مخيمات الشتات والمهاجرين وهو يأسر الأرض ويحاول أن يسرق التاريخ والتراث على هذه الأرض. نحو ثلاثة آلاف وأربعمائة أسير محكوم عليهم والبقية قيد الاعتقال الإداري أو التحقيق القاسي، ومن هؤلاء مئتا طفل أسير تقل أعمارهم عن سبعة عشر عاماً، تتجاهل إسرائيل كل قوانين الدنيا بشأن كيفية التعامل معهم ولا يكون لديها أي فارق بينهم وبين الكبار.
تحتفظ السجون الإسرائيلية بواحدة وأربعين أسيرةً بينهن حوامل وقاصرات ومصابات لا يحظين بالحد الأدنى من الرعاية الطبية أو الغذاء الصحي أو الزيارات او المعاملة الإنسانية. أما عن عدد الأسرى المرضى فيتجاوز السبعمائة أسير لا يتلقون الحد الأدنى من الرعاية الصحية، وقد أصيب عدد كبير منهم بعاهات وأمراض مزمنة تعرضوا لها داخل السجون، والمؤشرات عديدة ومتكررة التي تتهم السلطات الإسرائيلية بأنها تتعامل معهم كفئران تجارب.
غرف الاحتجاز تفتقر إلى التهوية وكثرة عدد النزلاء، تماماً كما هو وضع المدارس في قطاع غزة لجهة كثافة الاستيعاب في الغرفة الواحدة. هذا يعني أن «كورونا» إذا تسللت إلى أي سجن أو أي غرفة فإنها من المتوقع أن تنتشر كما النار في الهشيم وتحصد المزيد من الأرواح ليضافوا إلى مئتين واثنين وعشرين أسيراً استشهدوا داخل السجون منذ العام 67، إما بسبب المرض والإهمال الطبي وإما تحت التعذيب.
لم يكن الناس في الأراضي المحتلة بحاجة لـ»كورونا» أو غيرها التي تفرض عليهم الحجر حتى يشعروا بمعاناة الأسرى الذين أصبحت قضيتهم ومعاناتهم ذات طابع اجتماعي شامل وأصبحت مصابا جللا لكل المجتمع الفلسطيني. يزداد الوضع سوءاً بالنسبة للأسرى ليس بسبب منع الزيارات والتواصل مع أهاليهم في زمن «كورونا»، ذلك أن الأسوأ ناتج عن سياسة الحكومة التي يديرها نتنياهو الذي يحاول جاهداً توظيف «كورونا» لإنقاذ نفسه والمتاجرة بمعاناة الأسرى للضغط على الفلسطينيين من أجل أربعة أسرى إسرائيليين قد يكون بعضهم جثثاً.
تظل سياسة الاعتقال والتعذيب جزءا أصيلاً من سياسة وطبيعة الاحتلال، حتى لو تم التوصل إلى صفقة تبادل، إذ سيعود لملء سجونه الثلاثة وعشرين بأسرى جدد أو قدامى كما فعل مع محرري صفقة شاليت، حيث أعاد اعتقال نحو ستة وأربعين منهم بأمل استخدامهم مجددا لتقليص حجم الثمن الذي سيدفعه في أي صفقة تبادل جديدة.
في تعامله مع الأسرى الفلسطينيين، لا يفارق الاحتلال طبيعته الإجرامية والعنصرية التي تتجاوز كل قوانين وأعراف الدنيا ويتصرف على أنه فوق القانون وكل القوانين الإنسانية التي عرفتها وتعرفها البشرية.
بالرغم من ذلك فإن تجربة الاحتلال الطويلة في التعامل مع الأسرى لا تشير إلى نجاحه في إحباط الفلسطينيين وقتل روحهم الكفاحية، فمن يسوم منهم عذاب السجن تتضاعف قناعاته وإرادته في تخليص الشعب الفلسطيني من وباء الاحتلال.
لقد أكدت الحركة الأسيرة على مدار تاريخها أنها عصية على الكسر أو الترويض، وكانت من داخل السجون تقود النضال الوطني الفلسطيني وتعبر عن صمود شعبها وتمكسه الحازم والعميق بحقوقه الوطنية وبحتمية الانتصار. لقد أطلق الرئيس محمود عباس في يوم الأسير وعداً بأنه لا يمكن التوقيع على أي تسوية بإنهاء الصراع دون تبييض السجون الإسرائيلية وتحرير كل الأسرى. وعد الرئيس لا يعني أن ثمة مراهنة على إمكانية التوصل إلى سلام نهائي ولا يعني أيضاً اليأس من إمكانية تحريرهم بقدر ما أنه يعكس إصرار الشعب الفلسطيني وقيادته على تحريرهم.
قد يهمك أيضا :
حول الاستثمار البشع للكوارث
"أميركا أولاً" أم أميركا فقط ؟