حضرني مقال للدكتورة غانية ملحيس، تستعرض فيه بعمق مدى أهمية النداءات والبيانات التي يجتهد بعض الشخصيات الوطنية في جمع توقيعات أكبر عدد من النخبة السياسية والثقافية، والأكاديمية، تجتمع حول مطالبات ونصائح للفصائل والقيادات السياسية، وآخرها كان موجهاً للرأي العام العالمي بثلاث لغات، يركز على موضوع الضم، وسياسات الاحتلال.
لقد كثرت وتنوّعت العرائض والبيانات والنداءات المشتركة التي تنتهي بمطالبات للقيادات، تدعوها إلى إنهاء الانقسام، وإعادة بناء الاستراتيجية الوطنية، وترميم أو تفعيل أو إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وأدوات الفعل الكفاحي.
المحصلة كانت دائماً صفراً، فالقيادات سادرة في حساباتها الانقسامية، والتمسك كل برؤيته، دون أن يتحرك شيء بالمعنى الوطني العام لا قبل «صفقة القرن» ولا بعد إعلانها وما نُفّذ منها، وما ننتظر تنفيذه.
يشير ذلك إلى سطوة الفصائل، وفوقية القيادات، وإلى ضعف النخب والشخصيات الوطنية العامة بكل مسمّياتها واهتماماتها.
لم يعد لدى النخبة الفلسطينية ما تنصح به، أو تقدمه لمعالجة الوضع القائم حتى جفّت الأفكار والمبادرات، وتحوّلت الحوارات، والمساهمات إلى جدل بيزنطي يكرر خلاله الناس في كل مرة، ما كانوا أدلوا به عشرات المرّات.
يدعو ذلك إلى العودة للتذكير بما كان عليه الحال قبل «أوسلو»، وقبل ظهور «الإسلام السياسي» على النحو الذي هو عليه من القوة والحضور والفاعلية، حتى نخلص إلى حقيقة مرّة، الحقيقة على ما يبدو، وأرجو أن أكون مخطئاً، هي أن لا إمكانية للجمع بين برنامجين ومشروعين متوازيين ومتناقضين.
من الأساس يقوم مشروع «الإسلام السياسي» كبديل نقيض لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومشروعها وطبيعتها، ما يستنزف الطرفين، ويستهلك الطاقة الوطنية، إلى الحد الذي يتيح لدولة الاحتلال استغلال هذا الوضع لتمرير وفرض مخططاتها التوسعية العنصرية.
«الإسلام السياسي» لا يمكن أن يدخل منظمة التحرير كشريك ثانوي، إلاّ في حالة واحدة، وهي أن يصبح صاحب القرار، وحينها لن تكون منظمة التحرير هي ذاتها التي نعرفها حتى الآن. وفي المقابل تقاوم حركة «فتح» وفصائل المنظمة دفاعاً عن المنظمة بصرف النظر عمّا آلت إليه أوضاعها.
نضطر في هذه الحالة للعودة إلى بعض الإشارات، التي تتصل ببعض تقاليد العمل الوطني بين الفصائل قبل «أوسلو»، والظهور القوي لـ «الإسلام السياسي».
كانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وفصائل أخرى في المنظمة تقدم نفسها أو تتطلع لأن تكون بديلاً لحركة «فتح» في قيادة المنظمة والشعب الفلسطيني من واقع تقييمها لذاتها على أنها الطرف الأكثر ثورية.
وخلال معارضتها الشديدة لبرنامج «النقاط العشر»، شكلت مع فصائل أخرى «جبهة الرفض»، ثم «جبهة الإنقاذ»، وخاضت حوارات ساخنة مع حركة «فتح» والجبهة الديمقراطية صاحبة مشروع «النقاط العشر». كان التناقض بين الحركة الوطنية اللبنانية والثورة الفلسطينية مع القوى اللبنانية الطائفية، وخلالها اندلع ما يمكن اعتباره «الحرب الأهلية».
غير أن التناقض المشحون بين فصائل رفض «البرنامج المرحلي»، لم يصل إلى حد الصدام المسلّح، ولم يهبط بقيم الحوار إلى الحدّ الذي بلغه الحوار هذه الأيام من الإسفاف والانحطاط، والاتهامات بالخيانة، وخدمة الاحتلال. «الشعبية» كانت معروفة بسياسة الانسحابات والتمثيل الرمزي في عديد جلسات المجلس الوطني، ولكن لم يفكر أو يُقدِم أي فصيل على الانسحاب من المنظمة، أو أن يطرح ذاته بديلاً عنها.
لم ينزف الدم الفلسطيني على خلفية الخلاف السياسي الحاد، ولم يستغرق حل أي احتكاك أو خلاف أكثر من ساعات، وفي أسوأ الحالات ثماني وأربعين ساعة.
العام 1976، حين اندلعت «انتفاضة يوم الأرض» وكان الخلاف السياسي حاداً حينذاك، أقامت الفصائل مهرجاناً في «اليونسكو» ببيروت حضره عشرات الآلاف في القاعة وخارجها.
حين بادر عريف المهرجان للطلب من جورج حبش إلقاء كلمته وكان الأول، صعد إلى المنصّة وقال: «في مثل هذا اليوم لفلسطين كلمة واحدة يلقيها قائد الثورة ياسر عرفات» ثم عاد إلى مقعده.
وقد كرّر هذا الموقف في أحد احتفالات الجبهة بمناسبة تأسيسها بعد أن قال أبو عمّار عن حبش: إنه قائد الثورة، فبادره الحكيم بالقول إن للثورة قائداً واحداً هو أبو عمّار.
عليّ أن أذكر، أيضاً، أن هذا الموقف تكرر في الدورة الثامنة عشرة للمجلس الوطني حين كان الخلاف حاداً بشأن الاعتراف بقراري مجلس الأمن الدولي (242) و(338) اللذين أقرهما المجلس، إذ وقف حبش بعد (إعلان الاستقلال) يهتف «ثورة ثورة حتى النصر، وحدة وحدة حتى النصر».
لم يغب الاحترام وآداب التعامل بين قيادات الثورة، فلقد كان الشهيد والقائد الكبير خليل الوزير، يتعمّد حجز كرسيه في المجلس الوطني حتى إذا دخل «الحكيم»، نهض من مكانه وأسرعَ إليه لاستقباله ومساعدته في الوصول إلى المقعد الذي كان يجلس عليه «أبو جهاد»، ثم يجد لنفسه مقعداً.
لا أذكر ذلك من باب الحديث عن مناقب القيادات، وإنما عن قيم ثورية، أين نحن منها اليوم؟ الثورة أخلاق وقيم وأحلام، فإن خلت، كما يقول المثل الشعبي، بلت.
قد يهمك أيضا :
تـرامـب أمـيـركـي أصـلـي
الضمّ ضربة قاتلة للمشروع الصهيوني