فيما تواصل إسرائيل تهديداتها بالثبور وفظائع الأمور ضد سكان قطاع غزة، الذي تغلق عليه كل المنافذ، فإن موقف المجتمع الدولي يدعو للدهشة والحيرة. يمكن إطلاق ما شاء المرء من التوصيفات على موقف المجتمع الدولي إزاء ما ترتكبه إسرائيل من عقاب جماعي وجرائم حرب بحق الفلسطينيين، غير أن الموضوع بعيد عن الأخلاقيات. الموضوع ليس مجرد تواطؤ أو عجز، وإنما ينطوي ذلك على أبعاد سياسية لا يخطئها العقل السوي ولا يخرجها السياسي الواقعي من حساباته.
رضي الفلسطينيون أم غضبوا فإن مواقف المجتمع الدولي عموماً اتسمت بالطابع النظري، والعجز عن اتخاذ إجراءات أو مواقف ضاغطة على إسرائيل، لكن ذلك كان يعبر عن حالة من التضامن المعنوي، أما الآن فلا هذه ولا تلك.
هذا يعني أن الفلسطينيين خصوصاً في قطاع غزة قد أصبحوا في زنزانة بلا نوافذ، في ضوء التلاقي الدولي والإقليمي على ضرورة معالجة الأزمة التي تعصف بقطاع غزة، وتزداد تفاقماً، حتى الخيار العسكري لم يعد خياراً مجدياً في مواجهة هذا الحصار المشدد، إذ لم تفلح الحروب الإسرائيلية الثلاث السابقة، في الإفراج عن سكان القطاع، الذي عانى ويعاني من الدمار الذي خلفته تلك الاعتداءات، لتستقر الأمور في أفضل أحوالها عند معادلة «هدوء مقابل هدوء».
إسرائيل التي تبحث عن ذرائع، وتجري مناورات كبيرة لمحاكاة عملية عسكرية كبيرة لقطاع غزة، تتخذ من الأطباق الورقية والبالونات الحارقة ذريعة للتصعيد، ولكن الهدف ليس وقف هذه الأطباق وإنما تذهب إسرائيل إلى تحقيق أغراض سياسية، تبدو اليوم مختلفة عن الأمس.
تسعى إسرائيل إلى قطع آخر خيط لها مع قطاع غزة، بمعنى التنصل الكامل من مسؤولياتها كدولة احتلال وفق القانون الدولي، وإبعاد القطاع بكليته، ولكن مع التخلص من التهديد الذي تشكله المقاومة، التي قال أحد المسؤولين الإسرائيليين إنها ضاعفت قدراتها عشرات المرات قياساً بما كانت عليه خلال حرب 2014.
أرجح أن إسرائيل التي تتصاعد فيها لغة التهديد بالحرب، ستلجأ إلى أي صيغة تجنبها هذه الحرب، ذلك أن أحد مسؤوليها خاطب المستوطنين في قطاع غزة، قائلاً: هل تريدون أن تختبئوا في الملاجئ، وأن تتعرضوا للقذائف والصواريخ؟ وفي الاتجاه ذاته، يعطي نتنياهو تعليماته للجيش بالاستهداف المباشر لمطلقي الأطباق الورقية، ثم يتحدث عن مهلة تنتهي بعد يومين لوقف إطلاق هذه الأطباق، لكنه على الأرجح لا يجرؤ على أن يتخذها ذريعة لعدوان واسع تعارضه فيه أطراف كثيرة بما في ذلك واشنطن التي ترى أن الأمور تسير على نحو جيد دون حروب قد تخلط الأوراق.
من جانبها، فإن المقاومة تدرك مدى جدية التهديدات الإسرائيلية وتدرك الأبعاد السياسية التي ينطوي عليها التصعيد، ولذلك من الحكمة أن تتخذ موقفاً عملياً يؤدي إلى وقف إطلاق الأطباق الورقية، والتخلي عن نظرية الرد بالمثل، والردع مقابل الردع.
حين تنتزع فصائل المقاومة مثل هذه المبررات، فإن إسرائيل ستكون عارية وفي وضع حرج، وتحتاج إلى بعض الوقت للعثور على ذرائع جديدة، لكنها مع ذلك ستواصل الضغط ارتباطاً بملفات أخرى هي التي تشكل جوهر القضية ونقصد موضوع التهدئة أو الهدنة وموضوع الأسرى، بالإضافة إلى موضوع الحراك الشعبي السلمي شرق القطاع.
جديد السياسة الإسرائيلية أنها دون إعلانات صريحة ومباشرة لا تمانع في أن تكون السلطة الوطنية الفلسطينية هي العنوان الذي تتعامل معه في قطاع غزة. هذا يعني أنها لا تمانع في أن تستمر القاهرة في مساعيها لإنجاح المصالحة الفلسطينية وتحقيق عودة السلطة إلى قطاع غزة، طالما أن الهدف هو أن تنجح المجموعة الدولية التي تحدث عنها المبعوث الأممي لعملية السلام ملادينوف في البدء بتأهيل قطاع غزة، تحت عنوان معالجة الأزمة الإنسانية، الأمر الذي سيفضي من و جهة نظر إسرائيلية إلى دولة غزة.
المهم بالنسبة لإسرائيل أن يختفي دور سلاح المقاومة، وأن يتوقف التهديد الذي يصدر عن المقاومة، وبدون تغيير جوهري على الأهداف الإسرائيلية التي ستظل تتحكم في العلاقة بين الضفة وغزة، وكأن الانقسام باق بالمعنى الجغرافي واللوجستي.
في كل الحالات فإن أمام نزلاء الزنزانة واحداً من أمرين: فإما الخيار الوطني الفلسطيني، بمعنى تحقيق المصالحة، ومن خلاله يجري تحسين أوضاع سكان القطاع، وإما الخيار الأميركي الإسرائيلي الذي يسعى لفرض وقائع على الأرض في الاتجاه الذي يخدم صفقة القرن التي تقف اليوم عند غزة، وتجاوزت مسألة البحث والتقصي إلى مرحلة التنفيذ العملي.
بعد كثرة خيبات الأمل، نجازف اليوم بالقول إن تحقيق المصالحة قد أصبح أمراً ممكناً، فالأخبار الأولية تتحدث عن موافقة حماس على الرؤية المصرية، والتي نعتقد أنها لا تبتعد كثيراً عن رؤية حركة فتح مع تعديلات مقبولة. القاهرة ماضية بمساعيها وبكل الجدية اللازمة، لتحريك قطار المصالحة، في غضون أيام قليلة قادمة. فالوقت لم يعد يسمح بمزيد من التردد، والحراك السياسي الإقليمي لم يعد يسمح بتعدد الخيارات، فكل الطرق تؤدي إلى روما كما يُقال.