على الرغم من مرور بضعة أيام على إعلان وتنفيذ قرار الخصم من رواتب موظفي السلطة الفلسطينية في غزة، وكثرة التصريحات الشارحة، والمحتجة عليها، إلاّ أن أحداً من المسؤولين، أو جهة مسؤولة، لم يقدم للناس التفسير الصحيح لأسباب ودوافع اتخاذ القرار.
كل ما ذكر يندرج في إطار الذرائع غير المقبولة التي تربط بين القرار وبين قرار حماس بتشكيل اللجنة الإدارية، أو بينه وبين الأزمة المالية التي تعاني منها السلطة.
حتى بيان اللجنة المركزية لحركة فتح، حاول أن يضفي بعض المصداقية على صلة القرار بالانقسام عبر تشكيل لجنة ستقوم بالتحقيق في الأمر، وفي التواصل مع حركة حماس، أقول حتى ذلك البيان لم ينجح لا في تهدئة الخواطر، ولا في تقديم الأسباب الحقيقية.
ولأن تلك الذرائع غير منطقية، وغير مفهومة أو مقبولة، لا من الضحايا، ولا من المراقبين، أقدم المبعوث الدولي لعملية السلام ملادينوف على إطلاق تصريحه، الذي ينطوي على نقد غير مباشر للإجراء، حين طالب بالعدالة في تحمل الأعباء والمسؤوليات.
كان بإمكان ملادينوف أن يصمت مثل كل الصامتين، وأن يترك الأمر يتفاعل بين الفلسطينيين، لولا أنه على علم بخفايا الأمور، السياسية وغير السياسية، وعلى علم، أيضاً، بالتداعيات الخطيرة التي تطفح بالمزيد من الأزمات على جلد غزة وأهلها.
الذين اتخذوا القرار يدركون مسبقاً قبل أن يتخذوه، طبيعة ردود الفعل والتداعيات التي ستنجم عنه، بما في ذلك في إطار حركة فتح التي ينتمي القسم الأكبر من الموظفين لها.
بالتأكيد القرار لا يستهدف على نحو مباشر إرباك حركة فتح في قطاع غزة، ما يجعلها ضحية، وتدفع ثمن تكتيكات سياسية من طبيعة استراتيجية تتعلق بحركة حماس وارتباط ذلك بالتحركات النشطة والجادة الجارية على جبهة الحلول السياسية الإقليمية التي تسعى وراءها الولايات المتحدة.
ربما كانت الآثار القريبة، مأساوية بالنسبة لحركة حماس، التي ستتأثر مداخيلها، وقدرتها على إدارة اقتصاد غزة، لكن هذا ليس أكثر من حلقة في سلسلة من الإجراءات اللاحقة في سياق الضغط الشديد على الحركة.
وسنلاحظ أنه ليس فقط مداخيل حماس ستتأثر نتيجة للركود، والكساد، الذي يسود اقتصاد غزة وأسواقها، بل، أيضاً، سيؤثر ذلك على مداخيل السلطة من أموال المقاصة على البضائع التي تدخل القطاع ذلك أن حركة التجارة والاستيراد ستنخفض على نحو ملحوظ، أيضاً.
الكل خاسر بسبب هذا الإجراء الأولي، من حماس إلى السلطة إلى حركة فتح، إلى الموظفين المعنيين، إلى المجتمع كله في قطاع غزة، وحتى على مستوى الفصائل الفلسطينية التي ستتهم بالعجز والتقصير لأنها لم تستطع تحريك أعضائها وأنصارها، في الضفة لممارسة الضغط على السلطة.
إذاً نحن أمام عامل تحريك قوي تم استدعاؤه لتحريك كل الوضع الفلسطيني، في إطار تحضيره، للتعاطي الإيجابي مع مخرجات الحراك الأميركي الإقليمي، الهادف لتحريك عملية التسوية وفق مبادئ وآفاق لا تحقق للفلسطينيين الحد الأدنى من حقوقهم.
سيندرج هذا العمل وما سيلحق به في إطار رؤية سياسية يعتمد مبدأ إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الحقوق الفلسطينية التي تصر إسرائيل على مصادرتها.
الآن تتبدل وسائل العمل لتحقيق "المصالحة"، من الحوار والعودة إلى الاتفاقيات السابقة، إلى وسائل الضغط والإخضاع، إذ يصبح على حركة حماس أن تقبل بما طرحه الرئيس محمود عباس على أمير قطر ولم تجب عنه حماس حتى الآن.
المطلوب من حماس أن توافق على تشكيل حكومة وحدة وطنية تلتزم ببرنامج منظمة التحرير الفلسطينية، الذي هو في الأساس برنامج الرئيس عباس، الذي يعلن صباح مساء التزامه بالعمل من أجل السلام، ويكرس التوجه نحو التعاطي الإيجابي مع التحرك الأميركي، المقبول والمدعوم عربياً.
إذاً المشكلة ليست بالضبط مشكلة اللجنة الإدارية التي شكلتها حماس وحدها كبديل واقعي عن حكومة الوفاق في غزة، ذلك أن الوضع قبل الإعلان عن تشكيل اللجنة وإعلانها، لم يكن مختلفاً عما هو عليه بعد تشكيلها وإعلانها. دائماً كانت هناك جهة تنظيمية إدارية غير معلن عنها للتنسيق بين أجهزة سلطة الأمر الواقع في غزة، ودائماً كانت هناك مرجعيات لعمل الوكلاء والمؤسسات السلطوية ما يعني أن الإعلان عن اللجنة لم يكن سوى الذريعة التي تستدعي خطوات وقرارات تبحث لها عن مبررات تتصل بحركة حماس والوضع في القطاع.
سيأتي الوفد الفتحاوي ويغادر قطاع غزة، دون أن يحصل على موافقة من قبل حركة حماس، التي لم يصل التطوير في سياساتها ومواقفها إلى الحد الأدنى الذي يجعلها تقبل أو تتبنى برنامج منظمة التحرير، والاندراج في مجرى البحث عن حلول سياسية، أصبحت آفاقها معروفة.
وربما كان علينا أن نشير إلى أن حركة حماس، لم تتأخر في إيصال رسالتها السلبية على قرار وبيان اللجنة المركزية لحركة فتح، حين اقتحمت دون مبرر وبسلوك مرفوض مكتب الدكتور زكريا الأغا عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ورئيس هيئة العمل الوطني الفلسطيني في غزة.
لم تحصل عملية اعتقال، ولم يأخذ المقتحمون أي شيء من مكتب الدكتور زكريا، واكتفوا فقط بالتفتيش الذي لم ينجم عنه سوى أن تصل الرسالة، إلى من يفترض أن تصل إليه في رام الله.
المرحلة القادمة، إذاً مرحلة حسم وكسر عظم، فمسلسل الأزمات لقطاع غزة لن يتوقف، فبعد أزمة الرواتب ثمة أزمة قادمة بالنسبة لموضوع الكهرباء والغاز، وربما أزمة تتعلق، أيضاً، بالتحويلات الطبية.
الضغط على القطاع سيتواصل بصرف النظر عن حجم الضحايا، ونوع التضحيات أو الآلام فإن خضعت حماس، وهي لن تخضع، كانت الساحة الفلسطينية جاهزة للتعامل مع متطلبات واستحقاقات العملية السياسية أما إن لم يحصل ذلك، فإن الضغط سيتحول إلى كارثة جديدة لسكان قطاع غزة، مدعومة بأغطية دولية وعربية.