لعل أهم ما يمكن استنتاجه من وصول الشعبوي المتطرف دونالد ترامب إلى البيت الأبيض هو أن العالم مقبل على اضطراب كبير، تاريخي، مركزه منطقة الشرق الأوسط، لكن تداعياته وارتداداته تضرب في كل مكان من المعمورة. في هذه الحال من العبث أن يغرق كل طرف في المنطقة بما في ذلك وأساساً الفلسطينيون في تحليل نتائج وأبعاد السياسة الأميركية على موضوع الحقوق الفلسطينية، وآفاق تطور الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي، ذلك أن الحد الأدنى من التوقعات بشأن السياستين الإسرائيلية والأميركية، يفيد بأن الصراع مفتوح على مدى زمني طويل.
في أحسن أحوالها فإن السياسة الأميركية لا تتجاوز منطق القبول بما يقبل به الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي، لكن ما يقدمه الطرف الإسرائيلي لا يسمح للفلسطينيين القبول بأية تسوية أو اتفاق سلام.
نتنياهو يصر على الاعتراف بيهودية الدولة، والتسليم بالتنازل عن القدس، وعن حق اللاجئين في العودة، ويصر على مواصلة الاستيطان ومصادرة الأرض، وان صرح كذباً أنه يقبل بدولة فلسطينية، فينبغي أن تكون منقوصة السيادة، ولا سيادة لها على الأمن آخر ما صرح به من استراليا، يضيف إلى ما سبق أنه يريد قوات دولية في قطاع غزة، لضمان أمن إسرائيل، التي لا تقبل طرفاً ثالثاً لضمان أمنها في كل الضفة الغربية.
إذا كان هذا هو الحد الأدنى الذي تقبل به إسرائيل، دون حساب لما تفكر فيه من إمكانية ضم الكتل الاستيطانية، فإن هذا الحد الأدنى، مرفوض كليا من قبل الفلسطينيين، هذه هي قاعدة الحساب الأساسية التي ينبغي أن تستند إليها حسابات الفلسطينيين خلال المرحلة المقبلة.
المنطقة كلها مرشحة لمزيد من الدمار والاضطراب، ويخطئ من يعتقد أن نهايات الاضطراب، ستتقرر في مخرجات الصراع الدائر في العراق وسورية واليمن وليبيا، فهذه مجرد بدايات لمرحلة طويلة من الاضطراب والدمار.
حين تقرر الإدارة الأميركية أن إيران هي راعية الارهاب الأخطر، وأنها تتجه نحو تمزيق الاتفاق بين ايران والدول الكبرى، فإن هذه الوجهة تذهب نحو توسيع دائرة الصراع في المنطقة، التي تخضع لصراعات مصالح دولية وإقليمية، من غير المتوقع أن تستقر فيها الأوضاع لعقود قادمة.
كان موضوع الأولويات، موضوع خلاف بين إسرائيل وإدارة الرئيس الأميركي السابق باراك اوباما، اما اليوم فهو موضع تطابق بين الإدارتين الإسرائيلية والأميركية، على اعتبار أنهما متفقتان على أن إيران هي الخطر الأساسي، الذي يشكل مواجهة الأولوية بالنسبة للطرفين، وهي أولوية بالنسبة لبعض الدول العربية، أيضاً.
يؤسس هذا التقرير لمرحلة من التحالفات المكشوفة بين أصحاب هذه الرؤية، ومعها قوى أخرى إقليمية مثل تركيا، بما سيترك آثاراً خطيرة بالغة السلبية على القضية الفلسطينية وأهلها وحقوقهم.
قد يحقق الفلسطينيون خلال هذه المرحلة بعض المكتسبات من نوع اعتراف عدد آخر من الدول بخاصة الأوروبية، بالدولة الفلسطينية، والأكيد أن تحقق القضية الفلسطينية المزيد من التفهم والتعاطف من قبل المجتمع الدولي، خصوصاً على مستوى الشعوب، وهو أمر لا يمكن التقليل من أهميته على المدى البعيد، ولكن لا مجال لأن يؤدي ذلك الى نجاح رؤية الدولتين، أو إلى رحيل الاحتلال.
على صعيد الأمم المتحدة، ومع ترامب وإدارته من غير الممكن التفاؤل بإمكانية انتزاع قرارات جديدة لصالح الفلسطينيين وقضيتهم، غير أن المحزن في الأمر أن الفلسطينيين يعرفون مصلحتهم وما يترتب عليهم فعله لكنهم يبتعدون عن ذلك يوماً بعد آخر، أسوأ ما في الخطاب السياسي الفلسطيني هو أن القيادات السياسية التي عليها أن تتخذ القرارات الصعبة، تواصل خطاب مطالبة الآخر في الساحة الفلسطينية بما يحيل الخطاب إلى خطاب تبرئة الذمة، من حق الناس العاديين أن يطالبوا وأن يصلوا، ولكن ليس من حق صاحب القرار أن يطالب لأن عليه أن يأخذ القرار.
خلال هذه الفترة، وقع حدثان مهمان، أديا إلى تعميق حالة الانقسام، واستبعاد الحلول الوحدوية. لن تسمح حركة حماس بالانخراط في الانتخابات المحلية، ولن تسمح بإجرائها في قطاع غزة، ما يعني أن الأمور إما أن تبقى على ما هي عليه، أو انها ستجرى في الضفة بمعزل عن قطاع غزة.
لكل منطق وتبريراته، ولكن المواطن ليس مستعداً لتفهم أبعاد وأسباب هذا الخلاف، فالنتيجة واحدة، ذلك أن الانقسام مستمر، ومستمرة آثاره وتداعياته الخطيرة على القضية وعلى عوامل الصمود.
أما الحدث الآخر فهو انعقاد مؤتمر فلسطينيي الخارج في استنبول، الذي حضره أكثر من ستة آلاف.
ليست المسألة في عدد الحضور، فهذا رقم متواضع قياساً بعدد الفلسطينيين في الخارج، لكن المؤتمر يذهب إلى المأسسة، ليشكل محطة أخرى في اتجاه مأسسة الانقسام، والنيل من التمثيل الفلسطيني الموحد عبر منظمة التحرير الفلسطينية.
دون كثير نقاش، فإن انعقاد هذا المؤتمر فضلاً عن أنه يشير إلى قصور منظمة التحرير وأذرعها الأساسية إزاء الاهتمام بفلسطينيي الخارج فإنه في المقابل يضرب في العمق الوحدة الفلسطينية، ويعمق حالة الانقسام والخلاف، خاصة أنه سيستدعي خطوات أخرى أحادية الجانب.
لا معنى بعد ذلك لكل النواح والعويل حول مصير الوحدة الفلسطينية، ولا معنى لكل الشرح حول مخاطر الانقسام، وتبادل الاتهامات، فالنتيجة أن مرور المزيد من الوقت، يعني المزيد من العقبات والصعوبات أمام إمكانية استعادة الوحدة، وان الفلسطينيين يسيرون بعكس اتجاه مصالحهم ومصالح قضيتهم، وأن خطابهم للآخرين لمواجهة مخاطر المرحلة المقبلة، سيكون ضعيفاً وممجوجاً.
خطاب الاتهامات المتبادلة، وتبرئة الذمم، ومطالبة الآخر، يقدم المبرر لكل من أراد في المنطقة، الذهاب إلى تعاون أو تحالف مع إسرائيل، ذلك أن كل طرف يفكر في أولويات الخطر الذي عليه مجابهته، بمعزل عن نتائج ذلك على الآخرين، أو على القضية الفلسطينية التي سيتراجع الاهتمام بها، وتتراجع مكانتها حتى لو ظل الفلسطينيون يتحدثون ليل نهار أنها القضية المركزية الأولى للأمة العربية والإسلامية.