بقلم : طلال عوكل
لبعض الوقت بدا وكأن بنيامين نتنياهو قد فقد الأمل في إمكانية إنقاذ مستقبله السياسي، لكنه اليوم يتنفس الصعداء. الإسرائيليون والفلسطينيون تملّكهم الشعور بأن نتنياهو سقط في الهاوية بلا رجعة، لكنه لم يفقد الأمل وظل يقاتل بعكس التيار، حتى وجد قارب النجاة.لم تكن الرغبة الفلسطينية بسقوط نتنياهو في الهاوية، قائمة على المراهنة بأن بيني غانتس يملك رؤية سياسية مختلفة، أو أنه يؤمن بسلام غير الذي يتبناه نتنياهو، لكنها الرغبة في الانتقام، وربما كسب القليل من الوقت، في حال مضى بيني غانتس في الطريق الذي بدأه نحو الإطاحة بنتنياهو وتشكيل حكومة بدعم من القائمة المشتركة، وإن كان من خلف الستار.
ثمة مشكلة في طبيعة وشخصية نتنياهو، التي تعكس ذاتية مفرطة تجعله مستعداً لتقديم أي تضحيات على حساب حلفائه، من أجل استمراره، لكن المشكلة الأساسية عند بني غانتس الذي يقتحم حقل السياسة بالمواصفات ذاتها التي تشكل هوية نتنياهو الشخصية.كان بإمكان غانتس أن يحقق ما أراد تحقيقه مع تحالفه في أزرق - أبيض بأن يشكل الحكومة بدعم من القائمة المشتركة، التي أرادت سقوط نتنياهو كهدف مباشر، وحتى أن يحظى برئاسة الكنيست، لكنه عاد إلى طبيعة السياسيين الأغرار الذين يبحثون عن مصالحهم الخاصة حتى لو أدى ذلك للتضحية بحلفائه.
نتنياهو قبل بتشكيل حكومة، مناصفة مع بيني غانتس الذي لم يبق معه سوى خمسة عشر مقعداً في الكنيست، رغم أن كتلة اليمين تحظى بثمانية وخمسين مقعداً، ولو كانت الأوضاع في شكل طبيعي لكانت المساومة صعبة، ولما كان لغانتس أو أي حزب آخر بحجمه أو أكثر أن يحصل على ما حصل عليه.غانتس نائب رئيس الحكومة ووزير الخارجية، وغابي أشكنازي وزير الدفاع مع الاحتفاظ لزملاء آخرين بوزارة العدل، وتصويت أربعة وسبعين عضواً لصالح تنصيب غانتس رئيساً للكنيست، حتى لو أدى ذلك للتضحية برئيس الكنيست السابق من الليكود ادلشتاين.
مساومة تبدو مربحة لغانتس ونتنياهو في الوقت ذاته، ما يؤدي إلى تفكيك أزرق - أبيض، وخيبة أمل كبيرة من قبل القائمة المشتركة، فضلاً عن إلقاء أفيغدور ليبرمان وكتلته على الرف، بينما التكتل اليميني الذي يتزعمه نتنياهو على حالة من التماسك.صحيح أن نتنياهو لعب على وتر الأزمة القومية التي اندلعت مع ظهور فيروس "كورونا"، وتزايد عدد المصابين والوفيات، وبالتالي الحاجة للتعبئة العامة، وإقامة حكومة وحدة وطنية يتحمل الجميع مسؤولياته في هذه المرحلة الصعبة، لكن هذا العامل لم يكن هو الدافع الرئيس وراء ما يحصل.
في الواقع من غير الممكن أو المحتمل أن ينجح تحالف نتنياهو - غانتس بتشكيل حكومة وحدة وطنية، حتى وإن كانت ستحصل على دعم أكثر من سبعين مقعداً في الكنيست، إذ ستبقى كتل أخرى وازنة خارج هذه الحكومة، ما يجعلها حكومة أفراد ذات تطلعات ومصالح خاصة.
في الواقع فإن ما يجري في الطبقة السياسية الإسرائيلية، ينطوي على دلالات مهمة. أولى هذه الدلالات أن العنصرية تضرب في جذور المجتمع والطبقة السياسية، حيث يرفض الجميع التعامل مع القائمة المشتركة، رغم أنها حققت فوزاً ظاهراً وغير مسبوق بحصولها على خمسة عشر مقعداً.
لقد جرى خداع وتلاعب بالقائمة المشتركة، التي راهنت على صدقية أزرق - أبيض، وبني غانتس، وأبدت استعداداً ومرونة عالية للتعامل معه ظناً منها بأنه سيواصل العمل والتعاون من أجل إسقاط نتنياهو.
في كل الأحوال فإن هذه التجربة بالنسبة للقائمة المشتركة ينبغي أن تترك آثاراً بالغة على طبيعة الدور الذي يمكن أن يلعبه الفلسطينيون في الحياة السياسية في إسرائيل.
لقد تعرض الفلسطينيون في إسرائيل إلى حملات تحريض واسعة، وقدمتهم على أنهم وباء لا ينبغي الاقتراب منه، وأن من يتعامل معهم سيكون في موضع المتهم بالتآمر على يهودية الدولة ووجودها.
أما الدلالة الثانية فهي أن اليمين المتطرف سيعود للتلاقي والعمل معاً، كانعكاس لتدهور المجتمع نحو اليمين، وأن المصالح الذاتية الخاصة هي بعد ذلك التي تحرك المساومات وتحدد مواقع كل طرف.
ثالث هذه الدلالات، أن السياسة في إسرائيل لا تعرف القيم والمبادئ العامة، فالمصالح الفردية تلعب دوراً أساسياً في تقديم مفاجآت غير محسوبة.
من السهولة بمكان أن ينقل أي شخص سياسي أو حزب، البندقية من كتف إلى آخر.
رابع هذه الدلالات، أن مخرجات السياسة العامة في إسرائيل، لا تعطي للفلسطينيين أملاً أو تتيح لهم مجالاً للمراهنة على سياسة مختلفة، فلقد انزوى بعيداً صوت المطالبين بسلام يقوم على رؤية الدولتين، وبات بعضهم يخجل من أن يقف عكس التيار الجارف.
غير أن هذه الدلالات، تعود إلى الاعتقاد بأن المشهد السياسي سيظل مضطرباً، ولو بدا لبعض الوقت مستقراً، إذ إن طبيعة المساومة التي جرت بين نتنياهو وفريقه، وغانتس ومن بقي معه، تشير إلى أن الخداع وعدم الثقة والرغبة في الانتقام ستكون حاضرة في وقت ما. لا أحد يضمن أو يمكن أن يراهن على ثبات نتنياهو، على ما تم الاتفاق عليه، فهو سيظل يبحث عن ضمانات أكثر صلابة لمواصلة حياته السياسية على رأس أي حكومة في إسرائيل.
من جديد، سيخوض نتنياهو مساومات من أجل إنقاذ نفسه من براثن القضاء الذي يلاحقه، وربما يكون قد اتفق كجزء من الصفقة مع غانتس على شل يد القضاء، وإجراء التغييرات التي يريدها نتنياهو.
أشهر قليلة وينقشع الضباب، لكن الألاعيب والخداع سيظل السمة الأساسية في أداء الفاعلين السياسيين الإسرائيليين.