نعلم مدى قوة الصدمة التي أحدثها قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن القدس، والأرجح أن الإدارة الأميركية تعلم أيضاً تداعيات ذلك القرار، لكن الأهم هو أن الولايات المتحدة تعرف نفسها من جديد، كما عرفناها وعرفتها شعوب الأرض في القرن الماضي.
الإدارة الأميركية الراهنة هي أصدق من يعبر عن طبيعة السياسات والمخططات الأميركية إزاء الوضع في منطقة الشرق الأوسط، وفي القلب منه الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي.
يُؤثِر الرئيس الأميركي اللعب على المكشوف فهو لا يرغب في الاستمرار بالمناورات التي أجادها سابقوه منذ عهد الرئيس بيل كلينتون، الذين زرعوا الكثير من الوهم لدى الفلسطينيين والعرب بأن ثمة ما يمكن لأميركا أن تفعله بالضغط على إسرائيل من أجل إنجاز صفقة تاريخية تلبي تطلعات الفلسطينيين بحسب قرارات الأمم المتحدة، وتمنح إسرائيل مكافأة تاريخية عبر الانفتاح على العالمين العربي والإسلامي.
قرار ترامب الذي يخالف كل الأعراف والمواثيق والقرارات الدولية ويشكل تحدياً للأمم المتحدة ودورها، وللمجتمع الدولي، يعكس ظاهرة غرور القوة، ومنطق التفرد بالعلاقات الدولية، فضلاً عن أنه يلحق الولايات المتحدة بإسرائيل التي تعاني من عزلة متزايدة.
يعتقد ترامب وفريقه اليهودي المتطرف أن بإمكانه ممارسة ضغوط شديدة مباشرة وغير مباشرة على الفلسطينيين، بما يجعلهم يبتلعون الطُعم السام، حتى يقبلوا بالدولة المسخ التي أشار إليها نتنياهو مؤخراً بحيث تكون بلا حدود، وبلا سيادة، وعلى أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة.
في الحقيقة فإن الخذلان بدأ من بعض الدول العربية التي تمادت في أوهامها، بشأن حماية أنظمتها وبلدانها ولو كان ذلك على حساب الحقوق الفلسطينية والعربية.
ثمة من أوحى لترامب بأن الفلسطينيين يمكن أن يقبلوا بأبو ديس عاصمة للدولة التي يريدها نتنياهو.
إن من تابع مجريات الاجتماع الوزاري الطارئ للجماعة العربية يوم السبت الماضي، سيستخلص أن بعض العرب، قاوموا ويقاومون الارتفاع بسقف قرارات الجامعة العربية إلى المستوى الذي يتناسب مع هول الحدث الأميركي.
يوسف بن علوي وزير خارجية عُمان قال في كلمته المرتجلة بعد ثلاث ساعات ونصف الساعة على بدء الاجتماع إن لجنة الصياغة تعاني من مشكلة إذ مضى وقت طويل على اجتماعاتها من دون أن تصل إلى اتفاق.
ومع أن الجلسة الأولى المخصصة لكلمات الوفود انتهت على الساعة الثانية عشرة إلاّ ربعاً ليلاً، ورفعت لمدة ربع ساعة، إلاّ أن الاجتماع لم يلتئم ثانية إلاّ بعد أكثر من ساعتين ليخرج عنه بيان ضعيف لا ينطوي على إجراء واحد ضد الولايات المتحدة.
لا ندري إن كان بسبب معرفة مواقف الأطراف العربية قبل الاجتماع أم أنه الموقف الفلسطيني، فإن خطاب وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي، لا ينطوي على القوة والوضوح المطلوب في الموقف الفلسطيني. لقد اقتصرت المطالبة الفلسطينية على ضرورة التحرك العربي نحو مجلس الأمن الدولي لاتخاذ قرار بإبطال تداعيات قرار الرئيس دونالد ترامب، بالإضافة إلى دعوة الدول للاعتراف بدولة فلسطينية.
في محافل كهذه لا تعني لغة الرفض والاستنكار شيئاً، فلك أن تقبل أو ترفض ما شئت لكن لا تتخذ أي إجراء من شأنه أن يشعر الآخر بالخسارة أو بالتهديد بالخسارة ومع أن معظم المتحدثين في الاجتماع الوزاري وكان أفضلهم على الإطلاق وزير الخارجية اللبناني، المسيحي الوحيد من بين الوزراء، مع أن معظمهم طالب باتخاذ قرارات غير اعتيادية إلاّ أن البيان ذو الصفحات الثلاث لم يتضمن أي قرار غير اعتيادي، حتى الجانب المتعلق بالدعم المالي للسلطة الفلسطينية التي تعاني من نقص التمويل، وستعاني أكثر بسبب الضغوط الأميركية المرتقبة، كان هو الآخر غائباً إلاّ من جملة تتردد كما هي في كل البيانات العربية. الجملة التي تقول دعم صندوق القدس والأقصى بحسب ما قررته قمة عمان التي مرت عليها أشهر كثيرة من دون أن يستقبل صندوق القدس شيئاً يعتد به.
إذاً بعض الأطراف العربية مشاركة في الضغط على الفلسطينيين رغم كل الخطابات والشعارات التي تتحسّر على القدس وتشجب التطاول الأميركي على الحقوق العربية وعلى القرارات الدولية وبالرغم من مرور بضعة أيام على القرار الأميركي إلاّ أن الموقف الفلسطيني لا يزال يعتريه الغموض، ونحن نتحدث عن موقف ورؤية فلسطينية شاملة وليس عن تصريحات يطلقها بعض المسؤولين.
حتى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية لم تنجح في عقد اجتماع لها لتدارس الموقف. وبصراحة فإذا كان الموقف الفلسطيني غير واضح وغير محدد، ولا ينطوي على مطالبات قوية فإن الوضع العربي لن يكون أعلى بسقفه من سقف القرار الفلسطيني. في الحقيقة فإن الأمر على ما ينطوي عليه من تعقيدات وصعوبات في زمن القهر العربي، إلاّ أن الفلسطينيين اندفعوا إلى الزاوية، ولم يتبق لهم الكثير من الخيارات سوى استعادة الوحدة بأقصى سرعة، والتوافق على استراتيجية وطنية جامعة وعلى إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني، الذي لم يعد ممكناً أن يتوقف على رؤية الدولتين.