عميقة الدلالات التي ينطوي عليها التصويت بأغلبية ساحقة ثلاث مرات في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومرتين في مجلس الأمن الدولي.
ثمة بالتأكيد انتصار لصالح القانون الدولي، ولقرارات الشرعية، ولصالح احتفاظ الأمم المتحدة بوظائفها الأساسية، التي استهدفت السياسة الأميركية زعزعتها.
الأمم المتحدة تحولت إلى ساحة حرب باردة حقيقية، بين الولايات المتحدة وإسرائيل وبين المجتمع الدولي، وهي ساحة لا يقتصر الأمر فيها على ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وإنما هي ساحة مفتوحة على تناقضات موجودة، خلقتها الإدارة الأميركية منذ وصول ترامب إلى الرئاسة، ولم تستثن حلفاءها التاريخيين وأبناء جلدتها من الدول الرأسمالية ونقصد أوروبا كمثال ساطع.
يتوهّم ترامب أن بإمكانه أن يستعيد مجدا زائلا كانت فيه بلاده تسرح وتمرح وتخوض الحروب، وسياسة إخضاع الآخرين، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، ما جعل جورج بوش الأب يعلن في مطلع تسعينيات القرن الماضي ولادة نظام دولي جديد بقيادة أميركية متفردة.
الزمن اختلف، ولم يعد بالإمكان للولايات المتحدة، أن تتصرف منفردة في ظل نظام عالمي متعدد الأقطاب، وبعض هذه الأقطاب يقترب من أن يتجاوز القوة التي جعلت أميركا تتسيد المجتمع الدولي في عقود سابقة. في هذا السياق، سياق هبوط دور ومكانة الولايات المتحدة، لا يمكن تجاهل الارتباط الشرطي بينها وبين إسرائيل، ذلك أن مؤشرات هبوط الدور الأميركي، تنسحب على إسرائيل التي تعتمد كلياً على تحالفها مع الولايات المتحدة، ما يجعلها أحياناً تستهتر بعلاقاتها وتحالفاتها مع الدول الأوروبية، التي هيّأت لها من الأساس أسباب تحقيق المشروع الصهيوني.
أما مؤشرات تراجع إسرائيل بموازاة التراجع الأميركي، فهي تتصل أولاً، بإصرارها على السيطرة على الشعب الفلسطيني، الذي ينجح في تبديد رواياتها، ويقف عنيداً صلباً في وجه سياساتها، وثانياً، بالتحوّلات الجارية في النظام السياسي والمجتمع نحو العنصرية، وإرهاب الدولة.
منذ أن دخلت المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة، نيكي هايلي لممارسة مسؤولياتها أعلنت أنها تتجنّد للدفاع عن إسرائيل، التي تواجه انحيازاً من قبل الأمم المتحدة لصالح الفلسطينيين.
ما جرى في ساحات الأمم المتحدة منذ إعلان ترامب قراره الأهوج والمتهور بشأن القدس، يشكل استفتاءً دولياً على سياسة ومكانة ودور الولايات المتحدة، وشريكتها إسرائيل، وعلى قدرة الطرفين في التأثير على سياسات الدول الكبيرة والصغيرة.
الطبيعة العدوانية للولايات المتحدة، جعلت إدارتها تهدد، باستخدام المال، الدول التي تصوت لصالح القرار الفلسطيني العربي الإسلامي، وبالفعل جرى تحديد قائمة بثمانين دولة ستخضع للعقوبات الأميركية.
بعد حروبها الفاشلة والمكلفة لم يتبق للولايات المتحدة سوى المال لكي تفرض ولن تفرض على الآخرين سياساتها، وإملاءاتها.
حتى المال لم يعد سلاحاً كافياً لإخضاع الآخرين، إذ إن كل ما تدفعه الولايات المتحدة مساعدات وهبات وهي ليست سوى استثمارات سياسية، لا يتجاوز السبعة مليارات من الدولارات.
التخبط السياسي الذي تعاني منه الإدارة المتطرفة التي تدير دولة عظمى من وزن الولايات المتحدة، تقود الرئيس ترامب إلى الانكفاء، فهو قد صرح بأن صرف المعونات التي تقدر بسبعة مليارات يعبر عن قرار وسياسة حمقاء، وأنه سيعمل على الاهتمام ببناء بلاده.
القضية الفلسطينية في سبيلها نحو التدويل، ولكن سرعة تحولها إلى قضية دولية بامتياز، مرتبطة أشد الارتباط بتغير موازين القوى على المستوى الدولي.
لقد بدأت القضية الفلسطينية قضية دولية، ارتباطاً بطبيعة وأهداف ومصالح القوى الاستعمارية النافذة آنذاك حين أطلق بلفور وعده، وهي في طريقها إلى أن تعود قضية دولية، في صراع مفتوح على كل الأرض والحقوق الفلسطينية التاريخية.
الولايات المتحدة زجّت بنفسها في عملية تحدٍّ، والأرجح أنها لم تقدّر العواقب فوجدت نفسها أمام مفاجآت من النوع الثقيل، ويتعرض وجهها إلى لكمات متواصلة خلال أسابيع قليلة.
لست أرى في الظروف الراهنة، أن هناك أي إمكانية لأي طرف دولي أو كتلة كالاتحاد الأوروبي، بأن يأخذ مكان الولايات المتحدة في إدارة عملية سلمية من خلال المفاوضات، ولا أرى ضرورة الاستعجال والحكم على الآخرين انطلاقاً من الحاجة لوجود مثل هذا الطرف.
وفي ظل غياب هذه الإمكانية فإن إسرائيل المدعومة برعونة السياسة الأميركية، ستتعمد تأجيج الصراع على الأرض والحقوق، ما ينسف كل إمكانية لاستمرار النضال على أساس رؤية الدولتين التي تقف عند حدود الرابع من حزيران 1967.
في هذا السياق، على الفلسطينيين ألا يستبعدوا تصعيد العنف من قبل إسرائيل في مواجهة الاحتجاجات الشعبية الفلسطينية المتواصلة، والأهم هو ألا يستبعد الفلسطينيون أن تقوم الإدارتان الأميركية والإسرائيلية باستهداف الرئيس محمود عباس.
ثمة من صرح في الإدارة الأميركية مؤخراً بأن الشعب الفلسطيني يستحق قيادة أفضل، ويتزامن ذلك مع بعض الأصوات العربية الناشزة، التي أخذت تتحدث عن ضرورة التخلص من الرئيس عباس.
اللغة الأميركية تذكرنا بلغة إسرائيلية أميركية سابقة قبل الإقدام على اغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات، وإن كان من غير المتوقع أن يتكرر الأسلوب.
هذا يعني أن المجابهة تندفع بقوة إلى الأمام ونحو تصعيد الصراع بمختلف أشكاله، ما يستدعي المبادرة وبسرعة نحو استعادة الوحدة الفلسطينية باعتبار ذلك يشكل صفعة أخرى، وردّاً ملموساً وقويّاً على التحالف الأميركي الإسرائيلي.
إن إنجاز المصالحة والوحدة هو الرد العملي الإجرائي وربما الوحيد الذي يمكن تحقيقه في ضوء أن الإنجازات التي تحققت منذ قرار ترامب هي إنجازات سياسية معنوية وقانونية، لم ترقَ إلى مستوى الإنجازات الإجرائية المأمولة في مواجهة الإدارة الأميركية وقرارها.
إن الولايات المتحدة وإسرائيل تقدمان خدمة تاريخية للشعب والقضية الفلسطينية بسبب هذه السياسات المتطرفة الحمقاء التي تتخذها إدارتان متماثلتان في تطرفهما وحماقتهما.