بقلم : طلال عوكل
يحتار أفضل الخبراء في علوم السياسة وتجاربها، وفنونها في تفسير واقع الحال الراهن الذي يمر به الشعب الفلسطيني وقضيته. لا مجال للمحللين والمفسرين لأن يقدموا للمواطن رؤية شبه واضحة ولا أقول واضحة، ولا أن تتضمن تحليلاتهم، أي قدر من التفاؤل إزاء مجريات الأحداث في الساحة الفلسطينية.
الكل بما في ذلك المواطن الفلسطيني الأُمّي، يعرف تمام المعرفة، طبيعة المخططات الأميركية الإسرائيلية، ويدرك أبعادها، وإلى أين تتجه بوصلتها.
المواطن لم يعد بحاجة لأن ينتظر، أي إعلانات أميركية عن «صفقة القرن»، ولا إلى المزيد من التوضيحات النظرية من قبل إسرائيل، فما تقوم بتنفيذه على الأرض لا يحتاج إلى تفسير، لكن كل الفلسطينيين والمحللين، وخبراء السياسة، يتوهون في كيفية تفسير الحراكات الفلسطينية الداخلية المحكومة لانقسام عميق، محروس بحرص شديد على الحسابات والأجندات الفصائلية.
نماذج عديدة، للإرباك الذي تعاني منه وتتخبط فيه المواقف السياسية والعملية للفصائل الرئيسية. بعد زيارة وفد المخابرات المصرية إلى غزة ولقاءاته بقيادة حركة حماس، صدر بيان صحافي عن الحركة يتسم بإيجابية الكلام، ويعكس إيجابية الحوار الذي دار في تكتم شديد. غير أن ما جاء بعد ذلك البيان، يشير إلى وجهة معاكسة لما تضمنه البيان. ثمة شك كبير في أن يكون وفد المخابرات المصرية قد نصح حركة حماس بالتصعيد، التصعيد شرق وشمال قطاع غزة ضد الاحتلال، والتصعيد غير المفهوم ضد حركة فتح والسلطة والرئيس محمود عباس. ثمة شك كبير في أن يكون وفد المخابرات المصرية قد حرّض على الاعتداء الآثم على الناطق الرسمي باسم حركة فتح الدكتور عاطف أبو سيف، أو أن يكون نصح بزيادة الضغط على كوادر ونشاطات حركة فتح.
إذا كان كل هذا وما يصدر من ردود أفعال وأقوال من قبل الحركتين، يقدم مؤشراً على انغلاق الطريق أمام إمكانية تحقيق المصالحة، والتهدئة، فإن خياراً واحداً بقي أمام كل طرف. الخيار الوحيد امام حماس، هو التصعيد ضد اسرائيل، الأمر الذي قد يدفع الأمور نحو عدوان عسكري إجرامي رابع من قبل إسرائيل. لا تحتمل إسرائيل المزيد من التصعيد على الحدود من خلال مسيرات العودة، والأطباق الورقية والبالونات الحارقة طالما أنها لا تجد الهدوء الكامل أو النسبي، لتنشيط عملية إعادة تأهيل قطاع غزة، كاستحقاق معجل لـ»صفقة القرن».
إسرائيل التي تستعجل استثمار ما تبقّى من عمر ترامب في الإدارة الأميركية تستعجل أيضاً، تنفيذ ما لديها من مخططات، وبضمنها قصة غزة والكيان الفلسطيني فيها. ربما تعتقد حركة حماس أن بإمكانها أن تلحق الهزيمة بإسرائيل وجيشها، قرأت لأحد الكتّاب المقرّبين من الحركة، «بوست»، يقسم في بدايته بأغلظ الأيمان أن المقاومة ستنتصر على إسرائيل، إن حاولت ارتكاب عدوان جديد على قطاع غزة. إن كان هذا ممكناً فمرحباً بالتصعيد، والناس بالتأكيد سيكونون مستعدين لتقديم المزيد من التضحيات، ولكن ثمة شكاً لدى المواطن، الذي جرب الانتصارات الوهمية، ولم يحصد سوى مزيد من الآلام والدمار واليأس، والإحباط.
في المقابل لا يبدو أن ثمة أمام حركة فتح والسلطة، والمنظمة من خيارات أخرى سوى الإقدام على اتخاذ المزيد من الإجراءات، والقرارات، التي لا يجوز لأحد أن يواصل الدفاع عنها باعتبارها إجراءات غير عقابية.
كلٌّ بما لديهم فرحون، فيما يتغول العقل الإقصائي، على المواطن وأبسط حقوقه. مليونان من البشر المطلوب منهم حماية القضية الوطنية، وتقديم المزيد من الأثمان والتضحيات، هم ضحايا سياسة داخلية عبثية، لا ترى فيهم سوى خشب للنار المستعرة بين الطرفين. غريب كل ما يجري، غريب على مبادئ العمل السياسي وغريب على مبادئ القيم والأخلاق، وغريب على قواعد العمل الاجتماعي. إن الفلسطينيين يصنعون تجربة من أسوأ تجارب العمل السياسي الذي يقدم التناقضات الثانوية بين صفوف الشعب على التناقضات الأساسية والرئيسية، رغم خطورة هذه الأخيرة.
الرئيس محمود عباس يتوجه إلى الأمم المتحدة، ويلقي خطاباً باسم الشعب الفلسطيني، يسبق خطابه، خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي لم يبق مجالاً للغموض، أو حاجة للتفسير. خطاب ترامب موضوعياً، لا يترك لأي فلسطيني، مهما كان وضعه وموقعه أن يخطئ في اتخاذ الموقف الذي يلبي طموحات شعبه.
ولكن من المؤسف أن ينقسم الفلسطينيون بين من يدعو لخروج الناس إلى الشوارع، تأييداً لخطاب الرئيس، وبين من يدعو للتحريض عليه، ويصل الأمر إلى حد التشكيك في شرعيته، وفي أحقية تمثيله للشعب الفلسطيني. أي رسالة وأي هدف يمكن تحقيقه من وراء ذلك؟ وهل سيؤدي ذلك الى إرباك مواقف المجتمع الدولي إزاء الفلسطينيين وحقوقهم، أم أنه رسالة لتعميق الانقسام والتحريض على الكراهية؟ لمصلحة من يجري إضعاف الموقف الفلسطيني؟ وهل يغير من الأمر شيئاً محاولة نزع أو التشكيك في شرعية الرئيس فيما لم يعد ثمة مؤسسة أو مجلس شرعي، طالما أن الشرع الوحيد الملموس هو الانقسام وتبعاته، والأجندات الفصائلية؟