تُسقط رئيسة الوزراء البريطانية، وزعيمة حزب المحافظين، ما تبقى من ادعاءات، بأنها دولة تحترم القانون الدولي، أو أنها دولة تقوم على منظومة قيم الحرية والعدالة والديمقراطية. بعد مئة عام على إصدار وزير خارجية بريطانيا العظمى آرثر جيمس بلفور، وعده لليهود بإقامة دولة لهم في فلسطين، تعلن تيريزا ماي بأنها تفتخر بذلك الوعد، وتصر على إقامة احتفالية رسمية بتلك الذكرى المشؤومة.
كان بإمكان رئيسة الحكومة البريطانية ماي، أن تترك امر الاحتفال بمئوية وعد بلفور للكيان الصهيوني، باعتباره صاحب المصلحة الأساسية والأولى في وجود إسرائيل، لكن بريطانيا العظمى الرسمية لا تزال تصر على طبيعتها الاستعمارية، وتصر على أنها صاحبة مصلحة أساسية في قيام دولة إسرائيل.
لا يمكن لكل الذرائع التي تسوقها الرسمية البريطانية تبرير ذلك الوعد المشؤوم، ومواصلة التمسك به وبنتائجه، التي أدت إلى نشوء ما يعرف بالقضية الفلسطينية. الدول الاستعمارية وعلى رأسها بريطانيا كانت تريد أن تتخلص من الغيتوات اليهودية التي تسببت بالكثير من المشاكل والأزمات للمجتمعات الأوروبية، ورفضت الاندماج في تلك المجتمعات.
على أن المسألة لا تتوقف عند حدود رغبة الدول الاستعمارية في أن تلفظ الجماعات اليهودية من مجتمعاتها، وإنما ذهبت لتوظيف تلك الجماعات في خدمة المصالح والسياسات الاستعمارية. ثمة دوافع وأسباب مهمة وراء اختيار فلسطين كمكان ومنفى لليهود، وإلاّ لكان المفروض من الإمبراطورية التي لم تكن الشمس تغيب عنها أن تبحث عن مكان آخر، أو جغرافيا أخرى تتسع لليهود ولشعب تلك الجغرافيا.
ومع أن المسألة مرفوضة من أساسها، سواء كان الأمر يتعلق بالشعب الفلسطيني وأرضه أو بأي شعب وأرض أخرى، إلاّ ان اختيار فلسطين التي تربط شرق الوطن العربي بغربه، إنما يستهدف ضرب أي مشروع قومي عربي يستهدف وحدة الأمة العربية. الأمة العربية ينبغي وفق المصالح الاستعمارية أن تظل ترزح تحت وطأة الانقسام والتشرذم والتخلف، وكان على إسرائيل أن تكون رأس الحربة في تنفيذ المخططات الاستعمارية.
إن هذا التداخل بين القضية الفلسطينية ومحيطها العربي، وبين إصرار الدول الاستعمارية على إقامة دولة إسرائيل، وأيضاً بين وجود هذه الدولة، ودورها الوظيفي، هو الذي يجعل القضية الفلسطينية قضية كل العرب، بل القضية المركزية للأمة العربية على اعتبار أن وجود دولة إسرائيل لا يشكل تهديداً للشعب الفلسطيني فقط وإنما هو تهديد للأمة العربية، وخيراتها وخياراتها، وحاضرها ومستقبلها.
الاستعمار استبدل أدواته، وأشكال تحقيقه لمصالحه، لكن أهدافه بقيت كما هي في الجوهر، ولذلك فإن وعد بلفور لم يعد مسؤولية حصرية لبريطانيا وإنما تحول إلى مسؤولية جماعية للدول الاستعمارية التي تساهم مع بريطانيا في دعم وحماية وتقوية إسرائيل، وضمان تفوقها العسكري على كل من حولها من العرب وغير العرب.
لقد تأخرت السياسة الفلسطينية في التعامل مع ملف وعد بلفور ونقصد في اتجاه ممارسة الضغوط على بريطانيا من أجل إرغامها على الاعتذار من الشعب الفلسطيني، وإرغامها على دفع تعويضات عن نتائج ذلك الوعد، ومطالبة الحكومة البريطانية بالاعتراف بدولة فلسطين. وعلى الرغم من أن السياسة الرسمية الفلسطينية تحصر مطالبها لبريطانيا، بهذا الشكل بما في ذلك الاعتراف بدولة فلسطين على الأراضي المحتلة عام 1967، إلاّ ان بقية المطالب الفلسطينية الأخرى تذهب إلى الأساس وهو أن وعد بلفور أدى إلى شطب ومصادرة الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.
وإذا كان على الفلسطينيين أن يتابعوا الضغط على الحكومة البريطانية من خلال الانتقال بالملف إلى المحاكم الدولية، والاستناد إلى القانون الدولي، فإن ذلك يعني أن على القضاء الدولي أن ينظر في الحقوق التاريخية وليس في الحقوق المجزوءة التي تتعلق بأراضي 1967. من المهم أن يتعامل الفلسطينيون مع هذا الملف كملف أساسي وجزء من الممارسة السياسية اليومية، وليس فقط حين تمر ذكرى وعد بلفور. لقد استمعت إلى مشاركة للسفير الفلسطيني في بريطانيا الدكتور مانويل حساسيان، الذي قال إن الفلسطينيين نجحوا في أن يرفعوا نسبة الدعم والتأييد للحقوق الفلسطينية في المجتمع البريطاني من 30% عام 2005 إلى 70% عام 2015.
وإذا أضفنا إلى ذلك أن حزب العمال البريطاني وهو الحزب الثاني الذي يتبادل مع المحافظين تداول السلطة، قد أعلن أنه لن يحضر احتفالية وعد بلفور، فإن ذلك يشكل دافعاً قوياً لمواصلة الضغط من أجل إرغام الحكومة البريطانية للتسليم بالمطالبات الفلسطينية. الصراع مفتوح على هذه القضية، التي لا تستدعي التأجيل أو التردد أو المجاملات، فإذا كانت إسرائيل أجبرت أو أقنعت ألمانيا على الاعتذار ودفع تعويضات ضخمة بسبب ما ارتكبه الحكم النازي بحق اليهود، فإن الثمن الذي يتوجب على بريطانيا أن تدفعه للشعب الفلسطيني يفترض أن يكون أكبر بكثير.
الخالق والمخلوق، أي الدول الاستعمارية وعلى رأسها بريطانيا وإسرائيل، عليهم أن يدفعوا أثمان الجرائم التاريخية التي ارتكبوها منذ وعد بلفور، والمهم أن يتوحّد الفلسطينيون، وأن يصرُّوا على نيل حقوقهم كل حقوقهم التاريخية.