ضافياً كان الخطاب الذي ألقاه الرئيس محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثانية والسبعين.بلغة المجتمع الدولي، ومضامين الواقع خاطب الرئيس عباس أمم الأرض، داعيا إياها لأن تتحمل مسؤولياتها تجاه إنقاذ نفسها من العجز الذي يصيبها، ويهزم تطلعاتها لأن تكون منظمة الأمن والسلام العالمي.
البعض نظر إلى الخطاب على أنه طافح بالشكوى، لكن المسألة ليست إنسانية أو أخلاقية فحسب، فالكلام هناك وبهذه المضامين يتخذ طابع التقييم السياسي من قبل أصحاب قضية عادلة ربما تكون على رأس القضايا ذات الطابع الدولي.
أن يقف الرئيس الفلسطيني، على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة وأن يرفع العلم الفلسطيني بين أعلام الأمم، هو دلالة أكيدة على أن فلسطين وقضيتها قد فرضت نفسها على المجتمع الدولي حتى وإن لم تنل استقلالها الكامل.
بارعون نحن الفلسطينيين في جلد الذات، وبعضنا من موقع الاختلاف يبحث في الكرشه عن عظام، حتى يبرر معارضته، وما أن يجد عظمة يمسك بها، ولا يلتفت إلى غيرها.
من أراد البحث عن السلبيات فإن بإمكانه أن يحول الإيجابي منها إلى سلبي وأن يجد الكثير من الذرائع والمبررات، لتسويق منطقه أما من يقف على أرضية إيجابية فإنه سيتناول السلبيات بشيء من الموضوعية، ثم يبني رأيه ورؤيته على القضايا والأبعاد والمؤشرات الإيجابية.
قد يشبه هذا الخطاب من حيث قوته خطابات سابقة ألقاها الرئيس من على منبر الأمم المتحدة، وتميزت بقوة المنطق، لكن هذا الخطاب تميز بتقييم موضوعي واضح، لكل الأطراف المسؤولة عن الانهيار الوشيك لعملية السلام.
إسرائيل هي التي تتحمل المسؤولية الأولى والأساسية، فلقد رفضت وعطلت كل المبادرات التي تقدمت بها أطراف عديدة خلال الأربع وعشرين سنة المنصرمة، ثم تتحمل الولايات المتحدة المسؤولية عن دعمها الدائم وتواطئها مع السياسات الإسرائيلية، وحتى عن تعطيل دور الرباعية الدولية ودور الأمم المتحدة، التي تتحمل بدورها مسؤولية عن عدم قدرتها على تنفيذ وحماية قراراتها وهيبتها.
كان العام 2012 سيكون عام الدولة، وكان العام الحالي سيكون عام إنهاء الاحتلال، لكن الوقائع تقول غير ذلك وعلى العكس من ذلك، ولهذا فإن الاجتماع القادم للجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول 2018، سيكون مناسبة لإغلاق هذا الملف، والإعلان عن دخول مرحلة جديدة هي مرحلة الصراع المفتوح.
التحذير الذي أطلقه الرئيس في خطابه ليس موقفاً شخصياً، والانتقال إلى مرحلة جديدة تستدعي استراتيجية جديدة ليس هو الآخر أمراً شخصياً، بقدر ما أنه يستند إلى استنتاجات حركة الواقع والوقائع.
بقية هذا العام وجزء أساسي من العام المقبل، هما الفرصة المتبقية أمام الفلسطينيين والإسرائيليين والعالم، ولا مجال بعدها للمزيد من الفرص أمام إمكانية إنقاذ نهج التسوية برمّته.
من أراد أن يرى الجزء الفارغ من الكأس، سيصب شديد نقده على المراهنة بأن تنجح الإدارة الأميركية في دفع الأطراف للتوصل إلى حل على أساس رؤية الدولتين.
أما من ينطلق من رؤيته للجزء الملآن من الكأس فإنه سيستنتج أن الولايات المتحدة ليس لديها ما يمكن أن تعطيه للفلسطينيين، وأن هذه الإدارة الأسوأ ممن سبقتها، تتميز بانحياز أقوى وأعمق لإسرائيل.
هذا يعني أن علينا كفلسطينيين أن نصبر على بعضنا البعض ذلك أن التطور الموضوعي للأحداث في المنطقة، لا يحتاج إلى الكثير من الوقت حتى تصل الأمور إلى حائط السد الإسرائيلي السميك، ما يعني ضرورة البحث في كل ما يمكن أن يساعد على تحضير الذات لخوض معركة الصراع، وبأقل قدر ومساحة من التعارضات في صفوف الشعب والحركة الوطنية.
لا يستوي أن يغضب الإسرائيليون، وبعض الفلسطينيين من الخطاب ذاته، حتى لو كان لكلٍّ أسبابه المختلفة، ذلك أن ما يغضب المحتل الإسرائيلي ينبغي على الأقل أن لا يزعج الفلسطيني.
إسرائيل وصفت الخطاب بأنه تحريض على العنف والإرهاب، وهو في الحقيقة تحريض للمجتمع الدولي على ممارسة سلطاته لإرغام إسرائيل على الانصياع للإرادة الدولية، تترجمه إسرائيل من خلال هذا النوع من النقد للخطاب ما دأبت على ممارسته وهو أن الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت أو الصامت.
محظور على الفلسطيني أن يشكو أو يغضب أو يرفض أو حتى يطلب النصفة ممن يعتقد أنهم أهل لها.
وباستثناء بعض الملاحظات خاصة التي تتعلق بالصلة بين المقاومة والإرهاب، فإن الخطاب يصلح لأن يكون موضوع وأساس حوار يجريه الفلسطينيون لاشتقاق استراتيجية جديدة خاصة وأنهم وهم يتجهون لمعالجة ملف الانقسام، بحاجة إلى مثل هذا الحوار، ومثل هذا الاتفاق على السياسة.
في قادم الأيام سيراقب الكل مدى مصداقية وأهمية ما ورد في الخطاب والذي يفترض توفير إرادة جدية كافية لإنجاح مسيرة المصالحة والتي تتطلب من كل طرف تقديم بعض التنازلات، ومن الكل الوطني أن ينخرط في بناء المستقبل على أساس من الشراكة الحقيقية.