بقلم طلال عوكل
الوثيقة السياسية التي كشفت عنها حركة حماس مؤخراً، وفي توقيت ألهم البعض لأن يربط على نحو سلبي بين إعلانها وبين الزيارة التي يقوم بها الرئيس محمود عباس للولايات المتحدة، هذه الوثيقة، تشكل بحق تطوراً تاريخياً مستحقاً لحركة تحوز على بعض عوامل القوة، وعلى دور وتأثير بارز في الحياة السياسية الفلسطينية والعربية.
والوثيقة التي تم تداول أفكارها، ومفاصلها الأساسية داخل الحركة لسنوات، لا تنتظر، حتى من أشخاص أو جماعات داعمة وموالية للحركة، أية ملاحظات، أو اقتراحات تعديلية، ما يجعل أية ملاحظات من هذا النوع، مجرد لغو فارغ، ونصائح لا قيمة لها. على أن تسجيل الملاحظات، يأتي في سياق محاولة فهم أبعاد وأعماق السياسات التي ينتظر الناس من الحركة ممارستها خلال المرحلة القادمة. القراءة بالجملة تلزم حتى أشد المناوئين والمتشككين، أو المعادين لحركة حماس لأن يعترفوا، بأنها تنطوي على توجه عام إيجابي، متفاعل مع الداخل الفلسطيني والمحيط. وباختصار من وجهة نظري فإن الوثيقة بما تضمنته من مواقف تكتيكية واستراتيجية، وبعد تنقيتها من الأبعاد الدينية، فإنها تتطابق بنسبة تزيد على 90% من السياسة التي أقرتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في مؤتمرها الرابع عام 1980. الاختلاف بينهما بعد خصم البعد الديني والاجتماعي، يتمثل في أن الجبهة، تعترف صراحة، وهي منخرطة وتدير تناقضاتها، من خلال منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. وثيقة حماس تسجل أن المنظمة تشكل إطارا للفلسطينيين في الخارج والداخل، لكن اعترافها بوحدانية تمثيل المنظمة وشرعيتها يتوقف على شرط إعادة بنائها، بما يضمن انخراط حركتي حماس والجهاد فيها. أي أن الاعتراف بوحدانية تمثيل المنظمة سيبقى معلقاً، وستظل حماس تستخدم هذا الاعتراف، للضغط من أجل التوصل إلى صيغ مقبولة لمشاركة الفصائل التي لا تزال خارجها.
لا يمكن اعتبار هذه الوثيقة السياسية، عملاً تكتيكياً، يستهدف فقط معاونة الحركة على تجاوز عديد الأزمات التي تجابهها في علاقاتها الفلسطينية والعربية. هي إذن حصيلة مراجعة لثلاثين عاماً منذ الإعلان عن تأسيس حماس في عام 1987، والميثاق الذي اشتغلت عليه منذ إقراره في العام 1988. الحركات السياسية التجديدية، ونقصد التي تجدد ذاتها، انطلاقاً من تغير العوامل الذاتية والموضوعية، لا تكتفي بتقديم وثيقة مختزلة من هذا النوع، وإنما تقدم تقريراً مفصلاً عن الأسباب التي أوجبت التغيير، وتمر على نقاط القوة والضعف، والإخفاقات والإنجازات التي عاشتها الحركة، ووجب تغييرها أو تطويرها. والحركات الديمقراطية التي تعتني بمزاج ورأي النخب، والجماهير، عادة، تطرح الوثائق الأساسية للنقاش والجدل، وإمكانية إدخال بعض التعديلات، قبل أن تتخذ قرارها النهائي بالمصادقة على الوثيقة، حيث لا يمكن الاستفادة من بعض الملاحظات او الاقتراحات التي قد تفيد الوثيقة.
نظرياً، وجب القول، إن الوثيقة تقدم حركة حماس جديدة، كما وصفها بعض الكتاب المحسوبين على حركة حماس.
فهي قد صيغت بلغة عصرية، سياسية وقانونية دقيقة، طغى عليها البعد السياسي على البعد الديني، وهي وثيقة وطنت حركة حماس، بحيث تقدمها اليوم على أنها حركة وطنية فلسطينية إسلامية بدون مرجعيات وارتباطات فوق وطنية، كان من الحكمة أن تقدم حماس على الإعلان عن فك ارتباطاتها التنظيمية والإدارية واللوجستية مع جماعة الإخوان المسلمين وأن تخفف عن كاهلها تبعات الصراع الذي تخوضه الجماعة، والتي تعتبرها العديد من الأنظمة جماعة إرهابية. فالقضية الفلسطينية تنطوي على أثقال كبيرة على أهلها، حتى لم يعودوا قادرين على زيادة هذه الأثقال من خلال علاقات وارتباطات خارجية.
لا يمكن لأحد أن يأخذ على الوثيقة أنها تتمسك باستراتيجية تحرير فلسطين كل فلسطين التاريخية، أو أن عليها الاعتراف بإسرائيل، أو حتى الاعتراف باتفاقيات أوسلو، فلقد قالت الحياة كلمتها إزاء الخيار الذي اتخذته منظمة التحرير الفلسطينية، والسياسات والرهانات التي حكمت دورها منذ عام 1974، حين أقر المجلس الوطني الفلسطيني برنامج النقاط العشر.
هذا الموقف الذي يربط بين الهدف الاستراتيجي والمرحلي، والذي لا تتبناه حماس حسب الوثيقة وإنما هي مستعدة لأن تكون جزءاً من الموقف المتوافق عليها وطنياً، ونقصد موضوع الدولة على حدود الرابع من حزيران 1967، نقول هذا الموقف لا يمكن أن يكون مدخلاً للتنافس على خيار المفاوضات، وتقديم البدائل عن المنظمة. السؤال هنا هو لماذا على القوى الدولية والإقليمية أن تنتظر حتى تكون حماس في موقع منظمة التحرير اليوم، بعد أن قدمت الشروط اللازمة لكي تكون الطرف الذي يجري معه الحديث؟ كم عاما، وهل تحتاج حماس لأن تنتقل إلى الموقع الذي تمثله وتشغله المنظمة بعد كل الذي جرى ويجري؟
في ظل الوقائع الملموسة، والسياسات الجارية على المستويين العربي والدولي، من غير المتوقع أن تلاقي حركة حماس حتى بعد هذه الوثيقة، قبولاً وعلاقات تجعلها منافساً لمنظمة التحرير، التي تحظى بشرعية راسخة مهما قيل عنها، وقد يقال عنها الكثير في مجال النقد السلبي. العالم يتعامل مع الشرعيات حفاظاً على شرعيته، وحتى لا يتدخل الآخرون فيها، والعالم يتعامل مع السياسات والمصالح المتماثلة، وحركة حماس لا تحظى بأي من هذين البعدين.
من حق حماس أن تتفاءل بإمكانية أن يؤدي تعريفها الجديد لنفسها، إلى تحريك علاقاتها مع مصر، وعديد الدول العربية، أو ربما الأطراف الدولية، لكن هذا وذاك مرهون باستعداد حماس وقدرتها على الانخراط في المؤسسة الوطنية الفلسطينية الشرعية والرسمية، ومن موقع المعارضة كما هو حال فصائل المنظمة الأخرى، وحتى لو كانت حماس تملك ثقلاً أكبر بكثير من تلك الفصائل.
موضوعياً، وسواء أرادت حماس أو تمنّعت، هذا هو السياق الذي ستقرره الأحداث في لاحق السنين، إلاّ إذا انقلبت الدنيا، وتغيرت جذرياً المعطيات المقروءة اليوم. بقي أن نشير إلى أن هذه الوثيقة تنطوي على خطاب جديد غريب بمعانيه ومفرداته، ولهجته عما تربى عليه كادر وأعضاء الحركة، وستبدو الوثيقة لبعض الوقت، ونأمل أن لا يطول ذلك، وكأنها وثيقة فوقية، لم تصل معانيها إلى قواعد الحركة، والأهم والعبرة الأساس هي في السلوك العملي، والتجربة الملموسة، التي ستحكم على قيمة الكلام المعسول.