لكأن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، متفرغة لاتخاذ قرارات وإجراءات هدفها تصفية القضية الفلسطينية. القرارات الأميركية ليست مجرد تهديدات ولا تتسم بالتردد، وتتخذ طابع التنفيذ الفوري، الأمر الذي يبدو وكأنه محاولة من الرئيس ترامب وطاقمه، الاستفادة القصوى من الوقت خوفاً من أن يطاح بالرئيس، أو ألا يحصل على فرصة ثانية في الانتخابات القادمة.
هي العقلية ذاتها التي تقود السياسة الإسرائيلية التي تجد في الإدارة الحالية، ذخراً استراتيجياً لم تحصل عليه في أي وقت، وتشك في أن تحصل عليه، ولذلك فإنها تضع كل مخططاتها التوسعية وأهدافها على طاولة التنفيذ.
الإدارتان الأميركية والإسرائيلية تتبعان أيضاً سياسة الخطوة خطوة، ولكن الخطوات السريعة والمتلاحقة التي تقدم إحداها للأخرى.
الإدارتان لم تعودا تهتمان للعزلة المتزايدة، التي تغرقان فيها يوماً بعد الآخر، إذ لم تعد الإدارة الأميركية قادرة على إفشال أي قرار فلسطيني أو عربي يتقدم عبر الجمعية العامة للأمم المتحدة أو أي من مؤسساتها.
فقط في مجلس الأمن تستطيع الولايات المتحدة، وهي جاهزة كل الوقت لإفشال أي مشروع قرار فلسطيني أو عربي، يشتم منه رائحة الانتقاد لإسرائيل، أو إنصاف الفلسطينيين، لكنها أيضاً تفشل فشلاً ذريعاً في المجلس ذاته حين تقدم هي أو إسرائيل أي مشروع قرار ينطوي على مخالفة للقرارات الدولية.
الولايات المتحدة، ومعها إسرائيل، حاولتا ابتزاز المجتمع الدولي والدول الصغيرة والفقيرة، وذلك باستخدام المال حيناً والتهديد أحياناً أخرى، لكنهما فشلتا في أن تحصلا على استجابة ولو محدودة لقرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارات إليها.
لا بد أن زعماء التطرف والعنصرية في هذا الزمان، ترامب ونسخته اليهودية بنيامين نتنياهو، قد أصابهما قدر من الاكتئاب بعد أن أعلنت دولة باراغواي، تراجعها عن قرار نقل سفارتها إلى القدس والعودة بمقر السفارة إلى تل أبيب.
نتحدث عن دول مثل باراغواي، وكولومبيا، التي أعلن رئيسها الاعتراف بدولة فلسطين، وهما كما يقال، من سكان الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، وفي مجال نفوذها.
ترامب الذي يحاول تجفيف خزينة "الأونروا"، تمهيداً لشطبها من الوجود، لا يكتفي بحجب الحصة الأميركية للوكالة الدولية وإنما يسعى، لمنع الدول من ممارسة مسؤولياتها في حماية هذه المؤسسة، من خلال منع التحويلات من الوصول إلى خزينة "الأونروا"، وذلك من خلال نفوذ الولايات المتحدة على شبكة التحويلات المالية.
تكذب الدولتان الولايات المتحدة وإسرائيل حين تتحدثان عن البعد الإنساني لأزمات الفلسطينيين مع التركيز على الأزمة في قطاع غزة، فلو أن الأمر كان كذلك، لما أقدمت الإدارة الأميركية على قرار وإجراء وقف العشرين مليون دولار التي تدفعها للمستشفيات الفلسطينية في القدس.
ما تبقى من المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة وتحرص على مواصلة تقديمها هي المساعدة المالية لأجهزة الأمن الفلسطينية طالما استمر التنسيق الأمني، الذي تستفيد منه إسرائيل.
وسنلاحظ أنه في حال نفذت القيادة الفلسطينية قراراتها المتعلقة بوقف التنسيق الأمني، وإعادة النظر في العلاقة مع إسرائيل بما في ذلك اتفاقية باريس، أو ما يتعلق بتعليق الاعتراف بإسرائيل من قبل منظمة التحرير، فإن الولايات المتحدة ستتوقف عن دفع دولار واحد لأي مؤسسة فلسطينية.
إذا كان قطع المساعدات عن السلطة ومنظمات المجتمع الدني والمستشفيات الفلسطينية في القدس، هي المرحلة الأولى فإن المرحلة الثانية تتسم بمزيد من العدوانية. ربما يعتقد البعض أن ما تقوم به الولايات المتحدة من إجراءات بحق الفلسطينيين هي بهدف الضغط على السلطة لكي تعاود التعامل مع الولايات المتحدة، وصفقتها، لكن ما جرى حتى الآن يشير إلى ما يقرب من إعلان الحرب مباشرة على القضية وحقوق الفلسطينيين، حتى يذعن الفلسطينيون للمخططات التوسعية والعنصرية الإسرائيلية التي تتبناها الولايات المتحدة من ألفها إلى يائها.
المسألة إذاً ليست مسألة تكتيك سياسي لإرغام الفلسطينيين على الجلوس إلى طاولة مفاوضات لن يجدوا فوقها شيئاً من حقوقهم وإنما هي سياسة لاجتثاث الأساس والمرجعية القانونية للحقوق الفلسطينية ومن ثم شطب كل هذه الحقوق على أرض الواقع.
يجدر بالفلسطينيين ألا يطيلوا التفكير فيما تنوي الولايات المتحدة تحقيقه وعبر أي وسائل. إذ إن ما ورد حتى اللحظة كاف لبناء استراتيجية فلسطينية شاملة، تضع الولايات المتحدة على رأس معسكر الأعداء.
وإذا كان ثمة ما يستلزم خوض هذا التحدي، فإن موضوع إنهاء الانقسام وإعادة توحيد مؤسسة القرار الوطني، والجهد الوطني الشامل، تقع على رأس الأولويات. المعادلة هنا بسيطة، فالخيار محدود، إما الفصيل، والمكاسب الفئوية الخاصة، وإما الوطن والمشروع الوطني، ومستلزمات تعزيز صمود الفلسطيني على أرض وطنه، الأمر الذي يقتضي أقصى الوضوح، وأقصى درجات الاستعجال.