بقلم : طلال عوكل
ينطوي على دلالات عميقة الإضراب العام الذي ساد كل الأراضي الفلسطينية بما في ذلك مناطق 1948، احتجاجاً على قانون القومية، الذي يشكل إصداره صيف هذا العام، إعلانا عن بداية مرحلة أخرى في حرب الكيان الصهيوني التوسعية على حساب كل الحقوق الفلسطينية، وكل الأرض الفلسطينية، بل على حساب وجود الشعب الفلسطيني على أرضه.
إذا كان إقرار قانون القومية، الذي توّج سلسلة من القرارات العنصرية وسلسلة من المخططات العملية الإسرائيلية، يشكل حرباً على الوجود الفلسطيني، بأساليب مختلفة، وسياسات ناعمة وخشنة، فإن ذلك يعني أن الشعب الفلسطيني موضوعياً، يخوض معركة واحدة موحّدة ضد المخططات والكيان الصهيوني، من الأساس.
هي عودة اختارتها الحركة الصهيونية إلى أساس وبدايات مشروعها الاستعماري قبل صدور وعد بلفور، مع استبدال الأحصنة، واستمرار الأساليب الارهابية ذاتها بعد أن حل الاستعمار الجديد وهو الولايات المتحدة الأميركية محل الاستعمار التقليدي أو القديم الذي تمثل حينذاك بالإنجليزي والفرنسي.
كان أهل الأرض، الصامدين عليها قد فجروا في الثلاثين من آذار 1976، انتفاضة اجتمع وأجمع عليها الشعب الفلسطيني بأسره، ولا يزال، فكانت كأنما تسبق الزمن بعقود، من حيث طبيعة المخططات الإسرائيلية ومستلزمات مواجهتها من قبل كل الشعب الفلسطيني. غير أن دورة التاريخ اللعينة شاءت أن تؤجل صحوة الفلسطينيين، لطبيعة عدوهم ومخططاته وأهدافه، ولكن ليس قبل أن يدفع الفلسطينيون ثمن هذه الصحوة. خلال العقود السابقة، ناضل الفلسطينيون في أراضي 1948، من أجل المساواة والديمقراطية، فيما ناضل الفلسطينيون في الأراضي المحتلة عام 1967، والشتات من أجل حق تقرير المصير وإقامة الدولة وعاصمتها القدس وتحقيق عودة الفلسطينيين.
ثم تداعت الظروف والتطورات، حتى ارتفع شعار الدولة على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس، على بقية الحقوق ونقصد حق العودة، وجرى عملياً تجاهل حقوق اللاجئين في الشتات، الأمر الذي عبر عنه تراجع دور وترهل منظمة التحرير، وتقدم دور السلطة الفلسطينية، ثم جرى تطور سلبي آخر، منذ وقوع الانقسام الفلسطيني قبل نحو اثني عشر عاماً، فأصبحت الأراضي المحتلة عام 1967 مقسمة إلى ثلاث: الضفة وتديرها السلطة وحركة فتح، وغزة وتديرها حركة حماس، والقدس، وتتعرض للتهويد المتسارع، والسلخ عن بقية الأراضي المحتلة.
منذ قيامها، شكلت منظمة التحرير الفلسطينية الهوية الموحِّدة للشعب الفلسطيني، وحين احتلت إسرائيل الضفة الغربية والقدس وغزة، عام 1967، وحدت إسرائيل تحت الاحتلال الشعب الفلسطيني على أرض فلسطين التاريخية، لكن الأمر الذي استمر أقل قليلاً من عقدين من الزمن، اتخذ عنواناً آخر للمخطط، كان بنتيجته بعد ذلك إعمال مخططات الفصل. الفصل بين الضفة وغزة، وبينهما وبين القدس، وفصل المدن والتكتلات السكانية الفلسطينية بعضها عن البعض الآخر.
اليوم تعود إسرائيل لتوحد الشعب الفلسطيني موضوعياً، وتطرح عليه ضرورة الكفاح تحت مشروع وطني واحد، وقيادة واحدة، لكن الفلسطينيين لم يتحركوا بعد لمجابهة هذا التحول وإن كانوا جميعاً يدركون الحاجة لاستراتيجيات جديدة مختلفة، ولإعادة صياغة وتعريف مشروعهم الوطني التحرري.
غير أن ثمة استحقاقا يدق على أبواب الوعي والفكر السياسي الفلسطيني ويتصل بضرورة الاستعجال في صياغة الهوية الوطنية الفلسطينية الجامعة بعد أن حولت إسرائيل الشعب الفلسطيني إلى تجمعات منفصلة لكل منها اهتماماتها الخاصة، وتلك واحدة من خطايا القيادات والسياسات الفلسطينية.
وكما كان الحال في بدايات المشروع الصهيوني، حيث كانت بريطانيا، العظمى هي العدو الأول للشعب الفلسطيني، بسبب تبنيها للمشروع الصهيوني، وتكفلها بإنجاحه، حتى قامت دولة إسرائيل، فإن التاريخ يعيد نفسه بصياغة وأدوات أخرى.
ربما كان من بين أخطاء القيادات الوطنية التي حملت عبء مواجهة الحركة الصهيونية قبل عام 1948، أنها لم تكن حاسمة في رؤيتها للدور الذي كانت تقوم به دولة الانتداب البريطاني، ولكن لا عذر لقيادات اليوم أن تتجاهل، أو تتأخر في رؤية الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة الأميركية، باعتبارها العدو الأول للشعب الفلسطيني.
ليست إسرائيل ذلك البعبع الذي لا يمكن إلحاق الهزيمة بها لولا اعتمادها الكلي على قوة الدولة الأعظم في هذا الزمان، لكن التاريخ لم يعط أية قوة أو امبراطورية، الفرصة للاستمرار، وهي قد سقطت الواحدة تلو الأخرى حتى لم يعد أي منها موجودا حتى اليوم.
أميركا التي تسعى بطرق مختلفة، لتدفيع العرب وغير العرب أثمان وتكاليف حمايتها لأنظمتهم، تقدم لإسرائيل ثلاثة مليارات، وثمانمائة مليون دولار، ولمدة عشر سنوات، والأرجح أنها ستكون من موازنة الضرائب وعمليات الابتزاز التي تمارسها الولايات المتحدة على الأنظمة المرتجفة. حين ألقى ترامب الجملة التي تتعلق بتفضيله حل الدولتين، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، انفجرت قرائح بعض المتربصين للسباحة في تيار الشائعات والاتهامات، التي يسيل لعابها على العودة للمفاوضات والتعاملات مع الولايات المتحدة فيما يتعلق بصفقة القرن، لكن هؤلاء المتحذلقين لا يريدون أن يتحققوا مما إذا كان طفل فلسطيني واحد يقبل التعاطي مع ما تطرحه وتمارسه الولايات المتحدة.
ليس هناك حل على أساس رؤية الدولتين، فإذا تجاهلنا الرفض السريع من قبل نتنياهو لقيام دولة فلسطين غرب النهر، فإن غرينبلات فسر ما قاله رئيسه، بأن لكل طرف رؤيته للدولتين، وفي الحقيقة فإن أميركا وإسرائيل ترغبان في حل الدولتين، ولكن دولة الفلسطينيين في غزة، ودولة إسرائيل بلا حدود تتمدد كيف تشاء فوق أرض فلسطين التاريخية. من الأفضل أن يرتدع هؤلاء المشككون، حين تتبع الولايات المتحدة كل ما قامت به، بالإعلان عن قبول قرار المحكمة الإسرائيلية بشأن الخان الأحمر، وقبولها التعامل مع الاستيطان على أنه يتمتع بالشرعية.