بقلم :طلال عوكل
قرون استشعار السلطة والقيادة الفلسطينية آخذة في التحرك بأقصى درجات الحساسية، تجاه مستقبل كل عملية التسوية كنهج ومخرجات وآفاق. لا شيء يدعو للتفاؤل إزاء إمكانية تحريك عجلة التسوية بعد أن تكسّرت كل العجلات التي يمكن أن تسير عليها. إذا كانت الإدارة الأميركية، هي رأس الحربة، كما هو واقع الحال حتى الآن فإن هذه الإدارة التي تحدثت كثيراً عن مهارة رئيسها في إنجاز الصفقات الكبرى، ما يجعله مؤهلاً لإنجاز ما قيل عنها أنها صفقة القرن، فإن القيادة الفلسطينية بدأت في التراجع عن رهانها. الأمر بالنسبة لرهان القيادة الفلسطينية يستند إلى قراءات عميقة، لمفردات الخطاب والدور السياسي الذي تقوم به الإدارة الأميركية، وخلاصتها أن هذه الإدارة المرتبكة لن يكون حالها أفضل من الإدارات التي سبقت من حيث تبني السياسة الإسرائيلية في كل ما يتعلق بملف التسوية.
ليس هذا وحسب بل ان هذه الإدارة، تتبنى عملياً الرؤية الإسرائيلية لكيفية التعامل مع صراعات المنطقة، وترتيب أولوياتها التي لا تجد القضية الفلسطينية لها مكاناً في مقدماتها. هذه الإدارة لا تكتفي بالضغط على الفلسطينيين وإطلاق وعود مبهمة، وإنما يبدو أنها تقوم بعملية تخدير للسياسة الفلسطينية، وذلك في إطار تكامل الأدوار مع حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل. وفي الإطار الدولي، أيضاً، تراجع الدور الأوروبي، واستقرَّ عند آخر محاولة قامت بها فرنسا، التي فشلت بعوامل أميركية وإسرائيلية في أن تضخ بعض الدماء في مبادرتها التي أصبحت جزءاً من تاريخ الفشل.
روسيا الحليف التاريخي للفلسطينيين لا تزال تكتفي بإطلاق التصريحات، شأنها شأن الفصائل الفلسطينية التي تعوّدت أن ترفع المطالب، وتدعو الآخرين، وكأنها ليست ذات صلة، أما الصين فهي أقل الدول الكبرى اهتماماً فلا تصدر عنها تصريحات بشأن الملف إلاّ في مواسم قليلة ومتباعدة.
الأوضاع العربية، ولا نقصد الدول العربية التي تعاني من الصراعات الدموية وغير الدموية، وتتعرض لمخططات التقسيم، والتدمير، وإنما ما تبقى من الأمة العربية، حددت أولوياتها على نحو، لا تقف على رأسها القضية الفلسطينية وملف الصراع العربي الإسرائيلي. وإذا كانت العلاقات والتحالفات، تتبع الأولويات، فإن العديد من الدول العربية باتت لا تخشى الحديث العلني، عن استعدادها، لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، بل ان بعض هذه الدول قد أقامت أوتوسترادات من التعامل مع إسرائيل، وتنتظر اللحظة المناسبة، للإعلان عن ذلك، وممارسته عملياً وتحت أنظار الجميع، مستفيدة من الانقسام والضعف الفلسطيني. ربما كان آخر ما نتوقعه أن يعلن وزير سوداني، عن ضرورة التطبيع مع إسرائيل، دون أن يقيم اعتبارا لأي نقد يفترض أن يصدر عن نظام يرتدي جلباب الإسلام السياسي، ويعتمر بعمامته.
السودان يعاني من أزمات تتصل بطبيعة نظام الحكم في الأساس وليس لأنه يتعرض لما تتعرض له سورية وليبيا والعراق واليمن، وهو قد عانى من التدخل الإسرائيلي الأميركي الذي أدى إلى قسمة السودان وجعل جنوبه قاعدة لإسرائيل، ولذلك كان غريباً أن تصدر عن أحد وزرائه دعوة للتطبيع، دون أن يؤدي ذلك إلى نقده أو محاكمته أو إقالته من الحكومة.
أما فلسطينياً فحدِّث ولا حرج، فبالرغم من أن أبواب تل أبيب مغلقة منذ زمن على سياسة توسعية عنصرية، تكره كلمة السلام، فإن الانقسام الفلسطيني، وترهُّل منظمة التحرير وتراجع جماهيرية ودور حركة فتح، فإن كل ذلك يدعو للاحباط واليأس.
المواقف الفلسطينية إزاء موضوع المصالحة، وترتيب البيت على أسس جديدة تضمن شراكة الكل، وتعزيز الوفاق الوطني في اطار مؤسساته الجامعة، هذه المواقف قد تدعو للتساؤل ما إذا تحوّل بقاء الانقسام إلى هدف بحد ذاته، وقد يعتبر البعض استمراره إنجازاً فصائلياً. ليس مطلوباً من أحد أن يقدم المزيد من المبادرات، التي لم تبق فكرة إلاّ وتضمنتها، وكلها تصطدم بالحسابات الفصائلية الخاصة، والخيارات الخاصة. تمعن السلطة في اتخاذ المزيد من الإجراءات العقابية لسكان قطاع غزة، ولحركة فتح في قطاع غزة، دون أن تحقق المرجو منها في معاقبة حماس وإرغامها على العودة إلى حضن السلطة.
وحين تحتاج إلى مساعدة خارجية تذهب إلى تركيا وقطر، للتدخل من أجل الضغط على حماس لإقناعها بالتنازل لصالح تحقيق المصالحة، الأمر الذي يزيد الأمور تعقيداً فوق تعقيداته.
كيف يمكن أن يتوجه خطاب التدخل بالمساعدة لتركيا، ويتم القفز عن القاهرة، التي أشار وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي إلى أن السلطة أودعت عندها ملف المصالحة؟
أليست العلاقة مع تركيا وقطر، خياراً سياسياً لا يتوقف على ملف المصالحة، الذي بذلت لتحريكه هذه الدول جهوداً كبيرة لكنها انتهت إلى الفشل؟
في المقابل، حددت حماس خيارها في الاتجاه المعاكس فهي ذاهبة بكل جدية وقوة نحو الالتزام بتفاهمات القاهرة وما بعد القاهرة، حيث تجد فيها إمكانية لتحقيق مصالحها، حتى لو غضبت قطر وتركيا، ولأنها وفق حساباتها لا تجد عند السلطة، والمنظمة ما يحقق لها أهدافها في حال أخذت طريقها نحو المصالحة.
كذلك فإن ثمة مخاوف حقيقية في ضوء كل هذه العوامل، لأن تتحول صفقة القرن إلى صفعة القرن، وحيث يمكن أن تأتي الكلمات للفلسطينيين من أطراف عديدة، وكل ذلك بسبب سوء السياسات الفلسطينية ورداءة الخيارات والأداء، وبحيث تأتي الصحوة، بعد أن يكون القطار قد وصل محطته الأخيرة، وحيث لا ينفع الندم، ولا يشفع التاريخ.